أكل الأرز بالشوكة والسكين

أكبر عيب كان هو أن نأكل في المطاعم خارج البيت، لأن هذا يعتبر إهانة لطبيخ أمي.
رأيت فساتين بألوان جذابة معلقة على الحوائط، عرفت فيما بعد أنها ستائر للنوافذ

نشأت في حي شعبي من أحياء القاهرة القديمة لأسرة قروية الأصل، وكنا لا نأكل إلا من طبيخ أمي، ولا نأكل خبزا إلا من خبيز أمي. وكان أكبر عيب هو أن نأكل في المطاعم خارج البيت، لأن هذا يعتبر إهانة لطبيخ أمي، ولم تكن لدينا ثلاجة كهربائية، لأنه لم يكن لدينا أكل فائض يلزم حفظه بالثلاجة، حيث كنا نأكل أكلا طازجا يوما بيوم. وفي الصيف كانت القلل الفخارية هي وسيلتنا لتبريد مياه الشرب، ولم نكن نعرف أفضل من هذا، لأن هذا كان حال معظم الأسر التي تعيش حولنا، وكنا بالفعل سعداء وقنوعين قناعة فوق الوصف بما كان لدينا، ولم نكن نطمح لأكثر مما لدينا، ولم نكن ننظر إلى ما يملكه من هم أفضل منا ليس لمجرد القناعة ولكن لأننا كلنا كنا في "الهوا سوا"!

حتى حدثت مناسبة اجتماعية مهمة جدا عندما تزوج أخي الأكبر الدكتور محمد، فتاة من أسرة أكثر ثراء وتسكن حيا راقيا من أحياء القاهرة، وعندما زرناهم في بيت أهل العروسة لأول مرة (وكنت طفلا في السابعة من عمري) لاحظت أشياء غريبة، فرأيت فساتين بألوان جذابة معلقة على الحوائط، عرفت فيما بعد أنها ستائر للنوافذ! ولم يكن لدينا في البيت سوى شيش الشباك، ووجدت مفروشات جميلة على الأرض ذات نقوش غاية في الروعة والإتقان عرفت فيما بعد أنها سجاجيد فارسية، وتختلف تماما عن الحصير لدينا، ووجدت مقاعد فخمة مريحة جدا يغوص المرء فيها عندما يجلس عليها ومختلفة جدا عن الكنبة الإستانبولي لدينا، عرفت فيما بعد أنها تسمى فوتيه، وعندما دخلت الحمام لم أجد الحمام العربي الذي تعودت عليه، ولكني رأيت كرسيا أبيضَ أنيقا وبه فتحة كبيرة وله غطاء كبير وداخله ماء نظيف، وفوق الكرسي يوجد صندوق أبيض كبير وعلى جانب منه أكرة باب صغيرة لامعة (عرفت في سنوات لاحقة أن اسمه التواليت)، ورأيت كرسيا آخر أبيض أنيقا أيضا وله فتحة بكامل حجمه وفي وسطه يوجد شيء معدني به عدة خروم ويشبه دشا صغيرا، وعلى حرفه من أعلى حنفيتين واحدة على اليمين وعليها علامة زرقاء وأخرى على اليسار وعليها علامة حمراء (عرفت فيما بعد أن اسمه البيديه)، وأخذت أبحث عن المكان الذي يمكن أن أقضي حاجتي به، فأحترت كثيرا وكنت في غاية الكسوف، وفضلت أن أمسك نفسي بشدة على أن أسبب فضيحة إجتماعية!
ثم جاء وقت الغذاء ورأيت طاولة كبيرة مرتفعة وحولها عدد من الكراسي لا يقل عن 12 كرسيا، ولم تشبه في شيء الطبلية التي كنا نأكل عليها ونخرط عليها الملوخية، وجلست على الكرسي ولما كنت أقصر من أن أستطيع الوصول إلى الأكل، جاءت الخادمة لي بمخدة وضعتها على الكرسي فرفعت من شأني، وأستطعت ليس فقط أن أرى الأكل بل والوصول إليه، ووجدت أطباقا كثيرة، وكنا تعودنا أن نأكل جميعا من طبق واحد كبير، وكل فرد في الأسرة يستخدم ملعقته محاولا الوصول للشبع بسرعة قبل أي فرد آخر من الأسرة. أما هنا على مائدة الطعام فالوضع مختلف تماما، فلقد وجدت أمام كل كرسي ثلاثة أطباق فوق بعض، طبق عميق للشوربة وأسفله طبق مسطح للأرز والخضار واللحوم، وفي الطبق السفلي طبق مسطح آخر عرفت أنه للحلو، وعلى يمين الأطباق وجدت سكينا وأمام الأطباق وجدت ملعقة كبيرة وعلى اليسار كانت هناك شوكة كبيرة وشوكة أصغر، وسمعت صوتا ناعما يقول لي: تحب شوربة فراخ يا حبيبي؟ فقلت وأنا أبلع ريقي من المشهد: طيب، وبواسطة ملعقة ضخمة غرفت لي من طبق صيني عميق فخم بيضاوي الشكل ووضعت الشوربة في طبقي العميق، وسألتني: كفاية كده؟ فقلت لها: لأ كمان ملعقة!! فابتسمت واستجابت، وبدأت في استخدام الملعقة أمامي في شرب الشوربة وكانت ساخنة جدا فلسعت لساني وأدمعت عيني، ونظرت حولي ووجدت الجميع ينظر لي ويبتسمون، ونظر لي أخي الدكتور محمد نظرة حادة وأشار بيده إشارة معناها توقف حتى نبدأ جميعا. 

Sociology
لم نكن في قاع المجتمع

ومرت تجربة الشوربة بسلام، وبمجرد أن انتهيت من طبق الشوربة وجدت الخادمة فوق رأسي تأخذ طبق الشوربة وملعفة الشوربة بعد أن أنهى مهتمه، وجاء دور الأرز واللحوم والخضار، وإنتظرت الجميع حتى يبدأوا أكل الأرز، وكانت هناك مفاجآتان من أهل العروسة: أنهم يمسكون السكين باليد اليمنى ويأكلون باليد اليسري، وقد تعلمت من أبي الشيخ الأزهري بأن من يأكل بيده اليسرى فسوف تأكل معه الشياطين، المفاجأة الثانية هي أنهم يأكلون الأرز بالشوكة، ولم أستطع أن آكل ووجدتني أراقبهم وأراقب كيف يأكلون باليد اليسري وأخذت أنظر حولهم بلا جدوى لمحاولة رؤية الشياطين التي تأكل معهم، وأنظر أيضا لمحاولة رؤية حبات الأرز تهرب من بين أصابع الشوكة وكان مشهدا فريدا حيث إنهم وبمهارة فائقة استطاعوا فيما يبدو تدريب حبات الأرز على البقاء متلاحمة بين أصابع الشوكة، ونحن في بيتنا تعودنا على أكل الأرز والكشري بالملعقة، وأكل اللحوم (إن وجدت) باليد، وأكل الخضار بالخبز، بأن نشكل قطعة الخبز على شكل ودن القطة ونغمس بها الملوخية والخضار.
كانت تجربة لا تنسى وعندها اكتشفت أن هناك أناسا يعيشون في كواكب أخرى يأكلون بشكل مختلف، ويدخلون الحمام بشكل مختلف، وحتى عندما كانوا يتكلمون كانوا يحشرون بعض الكلمات والتعابير الفرنسية أثناء حديثهم، وكنت أتأمل أمي الحبيبة الفلاحة القروية، وهي تسمع الرطانة باللغة الفرنسية بين الكلام العربي، وأراها تنظر إلى ابنها البكري الدكتور محمد وهي فخورة به حيث رأيته كفؤا لهذه الأسرة بل ويفهمهم عندما يرطنون أحيانا بكلام لا تفهمه.
وكنت دائما أتساءل عن أسباب كل هذه الفوراق؟ هذا مع العلم بأننا لم نكن في قاع المجتمع، وهذه الأسرة لم تكن في قمة المجتمع أيضا، يعني نحن كنا فوق القاع بقليل وهم كانوا أسفل القمة بكثير. فما بالكم بالفروقات بين القمة والقاع؟؟
ورغم هذه التجربة إلا أني أحببت عروسة أخي من أول يوم، ورجعت إلى بيتنا في الحي الشعبي نأكل من نفس الطبق بالملعقة وباليد اليمنى ونغمس الملوخية بقطعة خبز على شكل ودن القطة ونحن في منتهى السعادة حيث إن ملوخية أمي الحاجة (كانت ولا تزال) لا تعلو عليها أي ملوخية أخرى!