أماني الجندي تؤكد أن التراث الشعبي حلقة ذهبية

حفيدة عبدالحميد يونس توضح في كتابها "الأدب الشعبي" أن التراث الشعبي هو الحلقة الذهبية التي تربط الماضي بالحاضر.
الأدب الشعبي هو العنصر الاساسي وليس العنصر المكمل للدور الذي يلعبه الفن في المجتمع
الأدب الشعبي يزدهر وينبعث في ظل الأزمات، بل إن كثيرًا من موضوعاته صنعتها الانتكاسات العسكرية

عن "دار الحوار" في اللاذقية بسوريا، صدر كتاب مهم للدكتورة أماني الجندي بعنوان "الأدب الشعبي". ومن المعروف لنا أن الأدب الشعبي علم حديث نسبيًا، وقد وضع أسسه الأخوان جريم في ألمانيا.
أما في مصر، فيعتبر الدكتور عبدالحميد يونس هو من أسَّس له أكاديميًا، وحمل الراية منه الدكتور أحمد علي مرسي الذي قربه الدكتور عبدالحميد يونس إليه بعد أن لمس فيه الرغبة والإمكانية لحمل مشعل التخصص في تدريس هذا العلم في الجامعات المصرية، وحسنًا فعل أستاذنا الراحل صاحب البصيرة الثاقبة.
فتخصص أحند مرسي في هذا الفرع من العلوم أكاديميًا في الجامعات المصرية وتميز فيه مما أهله إلى تلبية العديد من الجامعات العربية للتدريس لطلابها، بل ورأس تحرير أكثر من مجلة متخصصة في الثقافي الشعبية في مصر وخارجها، وقد انتشر تلاميذه في مختلف الجامعات العربية.
 ويتطرق هذا الفرع من العلم للعديد من الموضوعات مثل: الأسطورة، والحكاية الخرافية، والسيرة الشعبية، والأمثال، والحكم، والحكايات، والمأثورات، والمعتقدات الشعبية،.. ،..، وغيرها من الأمور التي كان العامة في بلادنا يتداولونها مشافهة، ودخلت إلى محراب العلم وتم تقعيدها واعتبارها صنو للأدب الرسمي.
وهذا الكتاب الذي بين يدي توجهه مؤلفته الدكتورة أماني الجبدي إلى القارئ العام لتوسع رقعة الفائدة على الرغم من أنها تبحث في موضوعات شديدة الأهمية وفي قمة التخصص، حيث تكتب بأسلوبها السلس القريب من وجدان قارئها عن: الفُرجة الشعبية، وعرائس خيال الظل، والأراجوز، وعن الرواة، وفلسفة الضحك في الثقافة الشعبية، وعن القوّالين ومقامات الوجد، وعن الأرغول وأغاني الصباح، وعن التكايا والأسبلة، وعن الاستبداد والسلطة في منظور الثقافة الشعبية، وعن قيمة الوفاء في السير، وعن مرض الجذام في المعتقد الشعبي، وعن الخلود والنشور، وصلة الدم والرحم، بل وعن الحيوان في التراث الشعبي، ثم عن النيل والمواسم في مصر القديمة، ووفاء النيل عند قدماء المصريين، وعن الغول والإنسان والوحش والجن والشياطين في الموروث الشعبي، كما تتبع السحر في المعتقد الشعبي لدى عديد من الشعوب، 

الكتاب بمثابة رحلة ممتعة بين صنوف الإبداع الأدبي الشعبي، بل والإبداع الفني الشعبي، بل والعمارة الشعبية التي ارتبطت بأماكن بعينها لا تزال تعتبر شواهد باقية على ما كان يحدث في حياة المصريين

وتشير الجندي إلى أن قسمًا كبيرًا من نصوص الأهرام كان الغرض منه أن يستخدم كتعاويذ، وبعضه يستخدمه الكاهن عند الدفن، وبعضه يستعين به المتوفى للدفاع عن نفسه في رحلته إلى العالم للآخر، وأثناء محاكمته من قِبل أوزوريس.
وهذه الموضوعات، على كثرتها وتعددها، كانت تشغل كثيرًا من الدارسين، وقد وضعت فيها مؤلفات منفصلة، وكتب كثيرة، ولكن أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه يجمع بين دفتيه كل هذه الموضوعات ويبسطها للعوام.
ولهذا تقول المؤلفة في تقديمها لكتابها: "إنني أبدأ بتساؤل أتصور أنه مهم: هل نحن اليوم في حاجة إلى قراءة التراث الشعبي؟
 ويبدو أن الإجابة ستكون بنعم، لأن التراث الشعبي يمثل الحلقة الذهبية التي تربط الماضي بالحاضر، فالمجتمع الذي ليس له ماضٍ لا يمكن أن يكون له حاضر أو مستقبل.
وهي تضيف بأن التراث الشعبي خزانة مملوءة بآثار الديانات والفلسفات والعقائد المتشابكة والمتداخلة بين مجتمع وغيره من المجتمعات الإنسانية، لأن الإنسان هو صانع الحياة والحضارة سواء أكان في الشرق أو في الغرب.
وأضيف إلى هذا الكلام أمر مهم في الأدب الشعبي وهو أنه يحافظ على أصالة الأمة وشخصيتها وأساليب مواجهتها للمخاطر والأزمات والكوارث والشدائد، ولهذا فنحن نلاحظ أن الأدب الشعبي يزدهر وينبعث في ظل الأزمات، بل إن كثيرًا من موضوعاته صنعتها الانتكاسات العسكرية.
وهكذا ظهرت السير الشعبية في تاريخنا العربي الحديث، تلك السير التي جمعت بين الشعر والنثر، وبين الفصحى والعامية، لأنها كانت في الأصل تؤدى للجموع على الربابة في الأسواق، أو على المقاهي.
وتتحدث المؤلفة في الفصل الأول من هذا الكتاب الممتع عن الفُرجة الشعبية، وتشير إلى أن هذه الفرجة الشعبية وسيط ثقافي متكامل يقدمها أفراد عاديون ينتمون في الأغلب إلى الفئات الدنيا من المجتمع. وتعبر الفرجة الشعبية عن واقع الحياة الاجتماعية في بلادنا، وهي تنتقد بشكل مباشر أو غير مباشر تلك الأوضاع، وتكشف عن المثل العليا للسلوك الثقافي والاجتماعي المنشود.
وفنون الفرجة فنون شاملة تتكامل لتهدف، وتتضافر في أدائها أشكال مختلفة من فنون الأداء كالموسيقى والرقص والغناء والإنشاد، أو السرد والحكي. 
وبهذا فهي تجتذب إليها أكبر عدد من المتفرجين لأنها تشبع كثيرا من حاجاتهم، كما تفرج عن همومهم ومتاعبهم ومشاغلهم الذهنية عندما  يصلون من خلالها إلى حالة التطهر.
وربما كانت الموسيقى هي العامل المشترك في معظم هذه الفنون، فالوظيفة الظاهرة أو المباشرة لفنون الفرجة الشعبية هي تسلية الجماهير العريضة وإدخال البهجة إلى قلوبهم من خلال الاستعراضات والألعاب التي تشد انتباههم ولو مؤقتًا وتلهيهم عن هموم الحياة ومتاعب العيش التي يعاني منها الكادحون، وإن كان هذا لا يمنع باقي شرائح المجتمع من الفرجة والاستمتاع أيضًا.
وهذا الكلام يُثبت أن الأدب الشعبي هو العنصر الاساسي وليس العنصر المكمل للدور الذي يلعبه الفن في المجتمع، فهو يقدم لنا الفن للجمهور، وليس الفن للخواص. ولهذا فللفن الشعبي أهمية كبرى، لا سيما وأنه لا يتعرض لمقص الرقيب، وبالتالي يقول الفنان الشعبي ما يريد أن يقوله ببساطة عبر الغمز واللمز ويفهم من يجلسون لمشاهدته ما يرمي إليه، وهكذا  يتم المراد بحدوث نوع من أنواع التنفيس أو التطهير كما أسلفنا.
ومن العناصر المهمة في الفن الشعبي من يُسمون المحبظون أو جماعات المحبظين؛ وهي جماعات فنية شعبية انتشر وجودها في كثير من القرى والنجوع والمدن المصرية منذ القرن الثامن عشر، وترد أقدم إشارة إلى وجودها في كتاب الرحَّالة كريستين نيبور، وبعد نحو خمسة وثلاثين عامًا يسجل لنا الإيطالي بلزوني بعضًا مما شاهده من تمثيل هؤلاء الفنانين الجوالين المعروفين باسم المحبظاتية.

وقد شاهد بلزوني في شبرا بمصر مسرحيتين قدمتهما فرقة شعبية مصرية عام 1815، ومن بعده ذكر المستشرق الإنجليزي إدوارد لين أنه شاهد عرضًا لفن المحبظين في إحدى الحفلات التي أقامها محمد علي باشا في مناسبة ختان أحد أنجاله.
وقد كان شائعًا أن يقدم المحبظاتية عروضهم في حفلات الزواج والختان داخل بيوت الأثرياء والتجار. ومن المحبظين إلى المقلداتي، الذي كان مؤلفًا ومؤديًا ومخرجًا أيضًا للعمل الفني ذاته، فهو إذًا ممثل تلقائي مُدرب من خلال الممارسة الطويلة على الاعتماد على موهبته التي صقلها من خلال تفاعله الطويل مع الجمهور. وقد كان يقدم للجمهور ما يلمس أن مشاهده في حاجة إليه.
ونمضي مع كتاب الدكتورة أماني الجندي فنجدها تتحدث عن صندوق الدنيا أو صندوق العجائب، الذي يمكن أن نعتبره سينما العالم القديم بكل ما فيها من إبهار على الرغم من أنه كان يعتمد على تحريك مجموعة من الأوراق الملونة من خلال لاعب فتنعكس صورها على عين المتفرج المثبتة على عدسة داخل ذلك الصندوق المظلم، ومما لا شك فيه أن هذه العجائب كانت تثير خيال الأطفال، بل والكبار أيضًا، إذ أنها كانت تؤدي الدور الذي لعبته بعد ذلك شاشة السينما.
ويشير الكتاب أيضًا إلى فن آخر من هذه الفنون الشعبية وهو خيال الظل أو كما يطلق عليه الرائد الدكتور عبدالحميد يونس ظل الخيال، والأراجوز الذي كان يُدخل البهجة إلى قلوب عامة الناس عندما يظهر في الحواري والأزقة بزيه المبهج، ولعل آخر من أحيا فن الأراجوز هو الفنان الراحل محمود شكوكو، الذي كان يحرك الأراجوز من خلال استخدام أصابعه المختفية داخل قفاز.
وتذكر المؤلفة أن المقاهي كانت هي المسرح المناسب لعمل رواة للسير الشعبية، وبعد ذلك شهدت المقاهي قدوم البيانولا، وإن كان هذا الشكل من أشكال الفن يأخذ طابعًا غربيَا وافدًا.
أما حكايات "ألف ليلة وليلة" فيمكن اعتبارها السفر الكبير الذي اجتذب العامة والخاصة على حد سواء، وكان لكل منهما قدراته على تذوقها والوصول إلى ما ترمي إليه من مغزىٍ. وقد اتفق الجميع على الإعجاب بشخصية المرأة الذكية التي مثلتها في هذه الحكايات الشعبية شخصية "شهرزاد" نظرًا لقدرتها على ترويض الملك ومنعه من أن يبطش بها، وبالتالي فقد كانت سببًا في عتق الكثير من رقاب بنات جنسها بسبب براعتها في الحكي. ولا يزال كتاب "ألف ليلة وليلة" يعد المصدر الأساسي للأدب الشعبي في العالم العربي، وليس في مصر فقط.
وتذهب المؤلفة بنا إلى الآلات الشعبية مثل: "الأرغول" و"الربابة" في الريف، وإلى آلة "السمسمية" في مدن قناة السويس، وتوضح لنا أن هذه الآلات كلها تتشابه في كونها آلات بدائية ذات وتر واحد، ومن اللافت أنه على بدائية هذه الآلات إلا أن براعة العازفين عليها جعلتها تُصدر أشجى النغمات. 
كما يتحدث الكتاب عن الحكاية الشعبية مثل حكاية شفيقة ومتولي التي عالجها كثير من الكتاب في أعمال أدبية ودرامية نظرًا لثراء مضمونها، وربما تذكرنا هذه الحكايات الشعبية بالريس متقال، وزميله شمندي اللذين نجحا بأدائهما المتفرد في إمتاع المشاهد الأوروبي بالحكاية الشعبية المصرية، رغم حاجز اللغة.
وقد فرَّقت المؤلفة بين الحكاية الشعبية والسيرة الشعبية. 
ويصل الكتاب إلى التكايا والأسبلة، ليوضح لنا كيف أنها كانت تشيد تقربًا لوجه الله من أجل سقاية العامة، ولاستضافة العابرين والغرباء وعابري السبيل في داخلها.
وفي الحقيقة يمكنني القول إن هذا الكتاب هو بمثابة رحلة ممتعة بين صنوف الإبداع الأدبي الشعبي، بل والإبداع الفني الشعبي، بل والعمارة الشعبية التي ارتبطت بأماكن بعينها لا تزال تعتبر شواهد باقية على ما كان يحدث في حياة المصريين منذ عهود خلت.