"إنجيل مها".. رواية قد تبتلعها العاصفة

البعض رأى في عنوان رواية حسن هند نوعًا من المساس بالكتاب المقدس، وقالوا: وهل يجوز أن يُصدر مسيحي رواية بعنوان "قرآن عائشة" مثلًا؟ 
رواية "إنجيل مها" تتسم بقدر من الصعوبة لكونها تناقش الماضي مع الحاضر مع المستقبل دفعة واحدة
الغضبة ليست ناجمة عن الاعتراض على ما يضمه الكتاب من مضامين  

في البداية، لا بد من تسجيل تحفظ بعض أصدقائي المبدعين المسيحيين في الوطن والمهاجر على العنوان الذي اختاره الروائي حسن هند لكتابه الأحدث "إنجيل مها"، فقد رأوا في هذا العنوان نوعًا من المساس بكتابهم المقدس، وقالوا: وهل يجوز أن يُصدر مسيحي رواية بعنوان "قرآن عائشة" مثلًا؟ ونبَّهوا إلى ما يمكن أن يترتب على تداول هذا العنوان من عواقب بسبب لجوء المؤلف، إلى جعل كتابه يحمل عنوانًا كهذا. 
ومن جانبي أود الإشارة إلى أن هذه الغضبة جاءت من مجرد رؤية غلاف هذا الكتاب على "فيسبوك" مسبوقًا بست كلمات هي: حان الآن وقت قراءة "إنجيل مها"، وليست ناجمة عن الاعتراض على ما يضمه الكتاب من مضامين.  
وحسن هند مؤلف هذه الرواية لمن لا يعرفه؛ كاتب مصري، وقاضٍ بمحاكم مجلس الدولة، وله عدة روايات أبرزها: "عناقيد الروح" الصادرة عام 2005، و"رخصة بغاء" عام 2009، و"محاكم تنكرية" عام 2016.  بالإضافة إلى مؤلفاته القانونية ومنها: "النظام القانوني لحرية التعبير"، و"الفلسفة الدستورية للحريات الفردية"، وعدد من الدراسات نُشر منها: "القاضي والسلطان"، و"حقوق المرأة".  
وفي تقديري أن روايته الجديدة هذه تتسم بقدر من الصعوبة لكونها تناقش الماضي مع الحاضر مع المستقبل، فهي تمزج بين الواقع الذي كان قائمًا في فترة ما من الفترات هنا في مصر، والواقع المعاصر، كما تمزج بين الأحداث التي تدور في قاع المجتمع، وعلى قمته، ولهذا فالرواية تسير على مستويين؛ ما يقصه الراوي الذي يمثل الطبقة الكادحة من الشعب المصري، في مقابل وجهة نظر "مها" الفتاة المنحدرة من الطبقة الأرستقراطية التي تحاول أن تندمج مع المتغيرات التي طرأت فجأة على المجتمع متمثلة في ثورة 25 يناير 2011.   

novel
المستشار حسن هند

وقد اتخذ المؤلف لروايته تقنية تتمثل في إقامة نوع من التناظر بين صورة الماضي والحاضر؛ فيجعل صورة الماضي التي كانت تضم طبقة الأثرياء من الإقطاعيين أو الباشاوات في ناحية، مقابل من يقومون بخدمة هذه الطبقة من فلاحين، وعمال أجراء، وخدم ينتمون إلى الطبقة السفلى، ولكنهم يدينون بالولاء إلى هؤلاء الإقطاعيين الاثرياء الذين يستخدمونهم لتحقيق مصالحهم، ومنهم مقاول الأنفار الذي يوظف الفلاحين ويراقبهم بعين الباشا أو السيد. 
هذه العملية فيها تباعد اجتماعي واضح رغم القرب المكاني، فالمكان هنا هو القرية وما بها من أرض زراعية. ولكن المسافة بين الأشخاص على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض تجعلنا نحس بأن هناك كوكبًا في مقابل كوكب آخر.  
ونتساءل ما الذي يمكن أن يجمع بين هذين الكوكبين ويصنع رواية؟ وهو سؤال في غاية الأهمية. ولذلك نجد أن حسن هند اختار  بدء أحداث روايته من نقطة الوثوب على الحدث، وهي آخر نقطة ثورية حدثت مع اندلاع أحداث ثورة يناير 2011؛ ففي خضم هذه الأحداث يلتقي الثائرون من أبناء الشعب المصري بجميع فئاته الاجتماعية والطبقية والعقدية، ومن هؤلاء "مها" بطلة الرواية، هذه الشابة التي لا تزال في ربيع عمرها، سليلة عائلة شديدة الثراء يطلق عليها "عائلة السنهوتي باشا"، وهي - كما تقول - جاءت إلى ميدان التحرير وكانت تود أن تكون معها أمها وباقي أقاربها ليتطهروا من الزمن الماضي ويعيدوا صهر أنفسهم في بوتقة هذه الثورة. 
 وسرعان ما تأتي المفاجأة أو المصادفة غير المتوقعة المتمثلة في هذا الظل الذي يتبع مها أينما ذهبت؛ شاب ملتحٍ، تقول هي إنه يبدو من السلفيين. 
وهنا نجدها تستعيد صورة السلفيين عبر مشهد سابق، كنوع من أنواع التداعي حين اعترضها أحد السلفيين وهي ترتدي ملابس إفرنجية لا ترضيه فإذا به يرميها بطبق بيض فيتلف ثيابها مما يضطرها إلى أن تعود إلى بيتها وقد باتت أضحوكة للجميع! 
ولكنها تفرق بين تطرف ذلك السلفي الذي تطاول عليها وعرَّضها للأذى، وهذا الملتحي الذي يتبعها في ميدان التحرير كظلها محاولًا حمايتها من الإيذاء أو التحرش. 
والغريب أنه كما وصفته الصفحات الأولى من الرواية، ثم أعادت وصفه من جديد في فصول تالية في الموقف ذاته، كان يبدو وكأنه تابع أمين موكل بحراستها، وبعد أن نقرأ عددًا من الصفحات ندرك أن هذا الشاب الذي يُدعى أحمد عطية الذي يتبعها كظلها هو ذاته الذي كان يعمل في أرض أبيها، لأن أباه كان هو مقاول الأنفار في أرض أبيها الباشا، المنوظ به الإشراف على الأنفار الذين يقومون بجمع "لُطع" الدودة، قبل جني القطن ذاته. 
وبالطبع لا بد وأن تكون لهذا المقاول حيثية وشخصية لدى العمال الأجراء، ولكنه أمام الإقطاعي، صاحب الأرض، يكون مجرد خادم يحاول أن يسترضيه بكل السبل كي يرضى عنه فيستمر في وضعيته. 

قاريء هذه الرواية سيجد أنه أمام قسمين: واحد باسم "العهد القديم"، والآخر هو "العهد الجديد"، وقد كان المؤلف بارعًا في الترحال بين العهدين

يقول أحمد عطية إنه ورث عن أبيه موهبة استرضاء الكبار، وقد نفعته هذه الخبرة عندما سافر إلى الخليج ليعمل خلال عطلات الصيف التي كانت تستمر حتى امتحانات السنة التالية في الجامعة، فكان ماهرًا في استرضاء الشيوخ الذين يعمل عندهم ملاحظ بناء، وهو يذكر أنه كان يسترضي شيخه أو كفيله بالطريقة ذاتها التي كان والده يتعامل بها مع الباشا الإقطاعي؛ مزيد من النفاق وإظهار الولاء، مع الطاعة العمياء، حتى أن هذا الشيخ حينما ألم به المرض، ولزم الفراش، جلس أحمد عطية عند قدميه وكأنه خادم أمين لكي يؤكد له ولاءه. 
فهذه طبيعة مجتمع عاش فترة طويلة وقاسى وعانى ذل الاستعباد والاستبداد. لذا فقد آن الأوان لكي يتحرر من كل ذلك بالانخراط في صفوف الثوار في ميدان التحرير، ولم يكن واضحًا في الأفق المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه الثورة. 
ولكن المؤلف، الذي يريد أن يستعيد تاريخ مصر منذ عصر محمد علي، أول بنَّاء للمجتمع المصري الحديث، وأول من منح الإقطاعيين الأرض، وأول من أسس شكلًا للمجتمع المصري، يريد أن يكون هذا التغيير الممتد كله هو الرواية، وهذا بالتأكيد أمر بالغ الصعوبة لأن هناك أحداثًا كثيرة مر بها المجتمع المصري، وهناك ثقافات كثيرة وفدت إلى هذا المجتمع، واتجاهات عديدة سواء في السياسة أو في الدين انصهرت في بوتقة المجتمع المصري، وأصبح الروائي هنا منوط به أن يضع هذه التفاصيل كلها في متن روائي واحد. فماذا كان عليه أن يفعل إلا أن يجعل من كل فصل من فصول الرواية نقلة بين الماضي والحاضر، أو بين التاريخ والمستقبل، وهو هنا يذكرني بلعبة البنج بونج لأنه يأتي بفكرة ثم بسرعة ترد عليها أخرى قادمة من الاتجاه المقابل لتنقلنا إلى عصر آخر، ثم يرد العصر الآخر بكرة تعود بنا إلى عصر غيره. 
كيف حدث هذا؟ سأقول لكم: لقد شهدت مصر تطورات في السياسة والفكر الفلسفي والاقتصادي، وظهر فيها في تلك الفترة اتجاهات حزبية وطنية لتحرير المجتمع من المحتل الإنجليزي، وتجلى هذا في ثورة 1919 من خلال الحزب الوطني الذي تزعمه مصطفى كامل ومحمد فريد، أو في حزب الوفد مع سعد زغلول ومكرم عبيد ثم مصطفى النحاس، أو الأحزاب الأيديولوجية مثل الحزب الشيوعي؛ وبالمناسبة كانت في مصر في ذلك الوقت عشرات الأحزاب الشيوعية حملت أسماء مختلفة، أو الأحزاب الفاشية، كحزب مصر الفتاة الذي كان يميل إلى العنف في ممارساته. 
وكان هناك المثقفون الذين أتاح لهم دخول روسيا في تحالف مع بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية أن تصلهم أمهات كتب الماركسية من المجتمع الروسي إلى مجتمعنا المصري عبر اللغة الإنجليزية، فكانت هناك طائفة من المصريين المثقفين الذين قرأوا كارل ماركس وتعرفوا على أفكاره من خلال تلك الكتب، ومنهم مَنْ قبلها ومن رفضها. 
كان هناك أيضًا الاتجاه الديني، الذي تمثل في ظهور حزب الإخوان، سواء في زمن حسن البنا أو في زمن الهضيبي. 
ومن خلال هذه الرواية نعرف بعض ما كان مستترًا عن هذه الأحزاب وكيف ظهرت، وكيف صار لها مرشدون. وندرك أن أحد هؤلاء المرشدين أسهم في تعيينه علي ماهر باشا، رئيس الوزراء الذي كان مقربًا جدًا من الملك.  

novel
الرواية التفتت للدور النسائي في المجتمع المصري 

وتوضح الرواية أن ثورة 1952 عندما قامت كان هناك نوع من التنافر بين اتجاه شباب الثورة ومحمد نجيب، وقد تبين ذلك في رفض محمد نجيب اندفاع الثوريين في سَنّ بعض القوانين والقرارات التي اتخذوها، وكان رمانة الميزان في هذا الموضوع هو الفقيه الدستوري "السنهوري باشا" الذي بارك الثورة وأخذ وعدًا من رجالها بعدم المساس بالقانون والدستور. ولكن هذا الوعد سرعان ما تآكل بسبب التغيرات السريعة التي حدثت بإعلان قانون الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية الزراعية بمائة فدان، وما زاد على ذلك صودر لصالح صغار المزارعين. فاعترض السنهوري وخاطب عبدالناصر في هذا. لكن رد عبدالناصر عليه كان ذكيًا جدًا: "وماذا أفعل إذا كان زميلك هو الذي وضع أسس هذا القانون؟" وعندما استفسر السنهوري: "زميلي من؟"، أجابه عبدالناصر: "سليمان حافظ" الذي كان مستشار مثلك". 
ويود المؤلف أن يُفهم القارئ أن عبدالناصر استطاع أن يلعب بفقهاء القانون، وأن يجعل أفكاره تخرج بغطاء قانوني معترف به من القانونيين أنفسهم، ومن هنا فلا يملك أحد أن يعترض عليها.  وإن كان الرأي العام في مصر في ذلك الوقت قد رحب بهذا القرار، باعتباره نوعا من أنواع إعادة التوازن الاجتماعي وتحقيق العدالة بين الناس. 
وكان هذا الاصطدام بين "السنهوري" ورجال الثورة بداية للتحول بينهم وبين رجال القانون؛ فمحمد نجيب كان يؤمن بأن الثورة قامت بواجبها، وأن الحكم يجب أن يعود لرجال السياسة، بينما رأى رجال الثورة أن معنى هذا هو القضاء على الثورة من الأساس. 
إذًا اختلفت وجهات النظر، وعبر المؤلف عن ذلك في فقرات سردية طويلة على امتداد الرواية. 
ولا يمكننا أن نغفل أن رواية حسن هند التفتت للدور النسائي في المجتمع المصري متمثلًا في نشاط هدى شعراوي وبعض الوجوه النسائية الشابة التي تحولت بعضها إلى الاتجاه الديني الدعوي ورفضت فكرة السفر للخارج في بعثات استهدفت الانفتاح على ما يدور في عواصم النور. 
وتحرص الرواية على التفريق بين فلسفة التعليم الأجنبي في مصر في ذلك الوقت عندما تذكر أن "مدرسة القلب المقدس" أوSacre Coeur كانت تهدف في المقام الأول لإعداد الفتاة لتصبح زوجة صالحة، فتمنع على الفتيات قراءة الكتب خارج المناهج، كما تمنعهن من الجدل وتطلب منهن الطاعة العمياء لكي تصبحن زوجات صالحات طيعات لأزواجهن، في مقابل مدارس "الليسيه "Lycee التي تعتمد الانفتاح على الثقافة الغربية وإطلاق العنان للقدرات العقلية، فتخرج منها الفتاة عاقلة ناقدة قادرة على الإفهام والإقناع.  
والحقيقة أن الرواية غنية جدًا بموضوعاتها، أحداث تاريخية ممتدة على أزمان طويلة شهدها المجتمع المصري، ويذهب فيها المؤلف تارة إلى الشمال حيث أوروبا ليبين ما تحتاجه مصر منها من أفكار. وتارة أخرى يتجه إلى قاع المجتمع ليُظهر مدى ما يحتاجه أيضًا من معاونة وإصلاح للخروج من بؤسه، ويُضاف إلى ذلك التفكير في محاولات اتخاذ موقف عادل من قضايا المجتمع. 
وقاريء هذه الرواية سيجد أنه أمام قسمين: واحد باسم "العهد القديم"، والآخر هو "العهد الجديد"، وقد كان المؤلف بارعًا في الترحال بين العهدين؛ ففي فصل يدخل إلى "العهد القديم" محاولًا أن ينقل أحداثًا وقعت فيه في فترة ما، وسرعان ما يعود إلى "العهد الجديد" ليوضح رد فعل هذه الصورة عليه.