الحراك الجزائري في شهره الخامس: مكابدات العسكر والشارع الحيران

"واش فيها" لو نزلت نخبة العسكر إلى ميدان الحراك وتماست مباشرة مع هذه الوجوه التي لفحها الحر.

ثمة جنون ومكابرة وتصعيد في سماء الحراك، وثمة قلق غضوب وصموت في معسكر العسكر.. كلاهما بين شد ومد وهرج ومرج، وكلاهما يختبر بعضهما كل ثلاثاء وجمعة.

ثمة مخارج ومبادرات تتناطح وتفصح عن هويته.. وثمة أخرى غامضة تتسرب ببطء وتسري بين الأطياف والجموع وبدأت تتموقع في الفراغ والغياب.

ثمة وجوه ما زالت تسيطر على الصورة والصوت وتعاند وتصر على الاصطفاف مع الحراك.. وثمة وجوه من نفس الصف تتفاوض تحت الطاولة وفي جنح الليالي.. فإذا لم تحظَ بالرعاية خرجت تهدد وتخلط وتطالب وتزايد علنيا وسريا أو من ثقوب الأبواب أو من تحتها لا يهم فلعلها تظفر بالقبول السعيد.

في شهره الخامس ما زال الحراك يجمع فكاكه ويحاول أن لا ينكسر ويتشتت تحت ضربات الضغط العفوي والمسيس والمبهم والمشحون الذي يمارس عليه كلما أطلت الأمور برأسها في وضوح شفاف بلا طلاسم أو أحجيات أو حسابات أو مناورات.. وما زال العسكر اللاعب الأهم في الساحة يرفع من مستوى وعيه كلما طغى وهيمن وبسط الضغط أجنحته من كل الجهات المعلومة والمجهولة.. يشد الحبل كي لا ينقطع أو يقطع أو يرتخي.

وعلى طريقة "سموا لنا رجالكم وسنرى" طرحت القوى المعروفة أكانت سياسية أو نقابية، نخبوية أو شعبوية، مدنية أو بهلوانية، من تراهم أهلا للحوار. لم يفلح هذا الأسلوب في جذب انتباه العسكر، ولم تنفع الرسائل السرية والعلنية في تلين الموقف والرأي، لا لأنهم يرفضون هؤلاء بل لأنهم يريدون تقديم أجيال جديدة من صنف آخر ومن طينة أخرى لم تتعرك بطين الحكم، ولم تتلوث بفساد الطبع والطبيعة، ولا أنتشت بحلاوة الكرسي، ولا الظهور المتكرر بـ "وجوه صحيحة" منمطة ومفروضة ومستهلكة، أصحابها "طاب جنانهم" طيلة عشرين سنة أو أكثر. فمن من هذا الجيل الذي هو في الشارع يعرف حقيقةً هذا الحمروش أو الإبراهيمي أو جاب الله أو بن بيتور أو سيفي أو بن بعيش أو شلابية أو غيرهم.. ممن سكنوا مطارح الروح وغبشوا مساحات عيون هذا العمر الفتي للمجتمع الجزائري؟ من يمكنه أن يضع الإيقونات الكبيرة في مكانها ويقول لها: "بارك الله فيكم.. مشكورين.. قدمتم ما كان عليكم أن تقدموه.. نريدكم أن تستريحوا وتنعموا بوقت من السلام المريح بعد مشاوير التعب والركض والنضال، ولا نريد أن نقدسكم، ولا أن نضعكم في مقامات أسطورية وخرافية لا تمس ولا تلمس، بل نحترمكم فأنتم بتاريخكم شرفتم الوطن وأعليتم من شأنه، وعلينا الآن أن نمضي في طريقنا الجديد كي لا نهلك عقولنا ونعطل وعينا ونبلـّد نظرتنا ونكلس خطوتنا"؟ قد يعرفونهم صحيح ولكن هذه المعرفة لا تتعدى صور مركبة معلبة متناثرة في الكتب، في الإعلام، في النت، في الصحف، وفي وسائط أخرى. وها هي نفس الآلة تريد أن تستفرد بالحراك وتجترح لهم إن لم تكن نفس الوجود فأراهيط أخرى بــ: "لوك" جديد، ونظارات شمسية حارقة، وشعرٍ مصفوف ملمع بــ "لبريونتنيل".

لا يجب على العسكر أن يرتاب من جيل جديد يمكن أن يلتقطه من هذا الحراك الطافح بهم. ولا يجب على الجيل الجديد أن يخشى من عسكر قد يفوقه ذكاء وخبرة. يحتاج الأمر إلى خيال مكثف ويد ثقيلة بقفازات ناعمة تمتد بينهما بلا خلفيات مشككة أو نظرات ضيقة، لكي يخطو الحوار نحو دروب وسبل تخرج بالبلاد من وهم الحلم إلى واقعية الفعل.

يجب فك الارتباط مع معان ومفاهيم وضعت العسكر دوما في خانة القوة والسيطرة والطغيان.. يجب أن تكون الصفحة بيضاء. يجب أن يخرج العسكر رجاله ويسميّهم. لا يحسن العسكر في مرات كثيرة التعاطي مع السياسة، عليه أن يتعلم أبجدياتها بروح جديدة لا تلك التي تملكت جسد السياسة المرادفة للمصلحة الخاصة والمناصب وشد الخيوط من وراء الستار.. سياسة تسمي الأمور بأسمائها.. لا لف ولا دوران ولا ترميز.. يجب أن يطوى كتاب السياسة هذا نهائيا ويقترح قاموس جديد يبدع في هندسة جسد السياسة بأفكار ورؤى مبتكرة خلاقة ملهمة.

وعلى الجيل الجديد أن يغدق على العسكر بروحه المسؤولة وهو يذهب إليه، بمعنى أن يثق في قدرته وحيوته وقوته ونظارة وعيه واتساع أفاق آرائه وواقعيتها ونضجها، وسلامة ما يطرحه من حلول في مجمل قضايا الوطن والمستقبل، على طاولة الحوار بعيدا عن فذلكات وأوهام ودسائس الرموز الزرقاء التي تستميت في التحذير والفزع والرعب من "رونجاس" العسكري.

ماذا يضر إن سمى العسكر رجاله وجلس مع نخب تنعم بعقول نيرة ومفرغة من الأفكار المسبقة والجاهزة؟ "واش فيها" لو نزلت نخبة العسكر إلى ميدان الحراك وتماست مباشرة مع هذه الوجوه التي لفحها الحر. مع ذلك "الزاولي" الذي يحمل علما ويأتي كل جمعة وفي قلبه نار وكمد؟.. ماذا لو سمعوا القول والحرقة مباشرة من أفواه حقة دون وسيط مريب أو زعيم وهمي أو محلل مفبرك أو إعلامي مأمور من وراء البحار؟

ماذا لو أحتل العسكر أيضا الميدان ونصب خيما للإنصات وتبادل الجدل والسؤال والمقترحات مع الجمع الغفير؟ لماذا يترك الميدان ساحةً يملؤها الغير والبعض والخائن والفلول والعميل والمكرر والمستهلك ومن مللنا حضورهم وهرطقاتهم وهراءهم؟

ما أشرت إليه سابقا من مسألة فك الارتباط تبدأ من هنا.. من تغير نمط التواصل التقليدية بين العسكر والحراك.. البعد عن خطب الثلاثاء، ورسائل النخب البائسة، والإتكال على بعض نشطاء الفيسبوك في الترويج المضحك والهزلي لمنجزات العسكر، وتدريب القنوات الإعلامية على التعاطي مع الحراك بكل فخر وموضوعية دون تحميله أكثر مما هو عليه حقا.. والبدء في رسم إيقاع جديد لبداية جديدة تتجاوز فظاعة ما حدث وترك الأمور التي باشرتها العدالة تأخذ مجراها الطبيعي لأن التركيز عليها سوف لن يزيد في هبوب الريح إلا الريح وسنبقى نتلولب ولن نتوقف أبدا.

يتربع الحراك على عرش الشهر الخامس وقد وجد ملاذه وخلاصه في شارع حيران متصالح مع الرفض والتمرد، ودونه مجرد: قيل وقال، وقرر، واقترح، وصاغ، وأعتقد، وفي رأي، ولطالما حذرت، وأذكركم أنني كتبت هذا قبل أن يحدث هذا، ونبهت في منشور، و..غيرها من التعابير والجمل والكلمات.. تأتي مرة من هنا ومرة من هناك، تديم الأزمة وترمي بها في نفق طويل غارق في العتمة، وبقي العسكر برمته ينتظر ويقترح ما يراه واضحا من أوراق تـُعبد الطريق والمسار والسبل الناجعة الملتزمة بالقوانين والأعراف، تحمي الخطوات وتكابد اللحظات في صراع قاس مع الوقت وقوى فظيعة غامضة تتغيا هاوية لا مستقر لها وفوضى مستعرة ووضع مكبل.. ولم توفر المعارضة أو القوى الأخرى حلا صاف غير معطوب بالنفاق والكذب والحلول الآنية يمكنها أن تنعش الجو، ولم تعثر أركان الدولة على أرض تستقر فيها وكل ما تنطق به يزيد في الإحتقان والتذمر والعصيان.

كنت كتبت في مقال سابق أن لا لاعب في الملعب سوى إثنان: العسكر والحراك وها قد حان الوقت ليسمي العسكر رجاله ويسمي الحراك رجاله الجدد.