الروائي أمين الزاوي في مقاله الأخير عن التطبيع: المحارب يصارع خياله

ثمة مهنة رائجة تستهدف المسلمات وتتخصص بكسر التابو اسمها التطبيع مع إسرائيل بحجج ثقافية وأدبية وسياسية.

هناك من يفتعل جدل من أجل أن يتموقع أو يخدم موقف أو يبرر فعل.. وهناك من يفتعله ليكدر فضاء النقاش ويبتعد به عن الواقع.. وهناك من يـــُــدوره من أجل أن يبقى في مجال "الفلاش" والاهتمام حتى ولو كان عليه أن يبيع بأرخص ثمن وأبخسه.

لا يمكن فهم ما كتبه الروائي مؤخرا حول ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى اللغة العربية ما لم نحفر عميقا في مساره بعين نافذة ومعرفة بخلفيات قد تساعد على إجلاء بعض ما يعتمل في عقل ومخ هذا الروائي الذي يدفع بكل قوته المعنوية واللغوية والأدبية والمعرفية كي يقال عنه: أنظروا فعلها السيد الروائي وتجرأ على ملامسة العيب والخطير والطابو والمحرمات، خلخل المسلمات، وكسر المكسر والمكسرات، وشرب العسل والكسل.

يأتي السيد الروائي من منطقة كتابة حاولت أن تقطع مع ما كان سائد من أدب وصف أنه اشتراكي تقليدي ومحافظ، رأى أنه معتل وغير ناضج، وكتب أدب ينجرف نحو هوس وهاجس ومكبوتات جنسية طغى على كثير منه العقد والتحلل في مشاهد بورونوغرافية كاسحة تقاسم فراشها الأم والأخت والخالة والعامة، وغيرها من المحارم والمحرمات قيل عن ما كتبه هذا الروائي أنه ساير نظرة إستشراقية لا تنظر إلى العالم العربي الإسلامي إلا من ثقوب الأبواب وما يحدث في غرف الحريم وما يخفيه عالم الجسد الفانتازي الذي يستعذب الإستـشراق في الكشف عنه ويستميت في تقديمه على طبق مخملي لقارئ آخر خاص يضعه داخل هذه البؤرة وهذا الأفق فقط.

أنزاح الروائي تقريبا في كل ما أنجزه روائيا إلى هذا المسعى.. تربت لغته في كنف هذه الروح حيث الولع الطاغي بتدمير القيم المتأصلة في وعي وأخلاق المجتمعات العربية الإسلامية، وحيث الانصياع إلى ما يطلب وما يأمر به كي يحجز المكان والفسحة والتاريخ والحضور ولو على حساب الهوية والكينونة والتراب.. القلق الحقيقي، والحرية والذاكرة.

حتى وهو يكتب باللغة الفرنسية ذلك الانتقال العليل والواهن والاختيار المرتب والمزهو ببلاغة فرنسية لا روح فيها ولا طعم ولا ملح فإن عملية نشره لأي كتاب لا تتم إلا وفق شروط أبوية - وهو كعادة الكثير من المثقفين من أشد دعاة قتل الأب ـ قاسية تفرضها دور النشر الفرنسية، حيث تعاد كتابة وصياغة ما يكتبه الروائي في مخابر فاحصة طاحنة لأساليبه كي يخرج نصه مقولبا ومحكما ومضبوط نحويا بالنقاط والفواصل والجمع والمفرد والكسر والضمة حسب معيارهم وقوانينهم وفلسفتهم، وببذلة تليق بالقراءة دون الإخلال بمعان ما يراد للذين يدخلون المحفل وينتسبون إلى المربع الأثير للفضاء الخاص لمن هم على استعداد تام للرضوخ، ويمتلكون جينات الولاء والطاعة.

تعاطى الروائي مع الوقائع والأحداث في الجزائر بما يشبه القنص الممنهج والمدروس، يرافق موازين القوى حين تطل برأسها ويأخذ وقتا أطول لكي يغذي طموحاته الكثيرة والمتشعبة من يوم أن كان على رأس إحدى قصور الثقافة، إلى الرواية المفككة حول محاولة اغتياله أثناء عشرية الإرهاب والدم، إلى عضويته وانتمائه الغامض إلى البرلمان الأوروبي للكتاب الذي أسس خصيصا للدفاع عن سلمان رشدي، إلى غاية مجيئه إلى صروح المكتبة الوطنية أين تعاظمت رغباته في بلوغ سدرة منتهى الحكم ورأى نفسه الأجدر والأولى في التربع على عرش وزارة الثقافة بهضبة العناصر.. لعب لعبة أدونيس الشهيرة سريا مع جهات عليا في الدولة آنذاك دون المرور على صاحبة الشأن اعتقادا منه أنها خبطة العمر ليتم الالتفاف حولها ولكنه فشل في تقديم نفسه بديل لها فأخرج من الباب الضيق، فأدار لعبة أخرى في العلن مع مريديه وهذه المرة كضحية للكلمة الحرة والفعل الثقافي الحر، وهيّج حوله القاصي والداني وأصيب المشهد بغشاوة بعيدا عن الحقائق المخفية لو انكشفت لعرف الصديق قبل العدو جوهرها وبواطنها؟

في مقاله الأخير يصطف الروائي مع وفائه المبتكر حسب الظرف والهمة والطلب، يثب إلى موضوع مضحك وواه ومستهلك ومتجعد، متوهما أن القارئ من البلهاء أو كسول أو غبي أو بهلون أو جاهل بغيره، متسائلا في مقالها التنويري: "لماذا نخاف من ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم (لاحظ هنا أنه يستعمل كلمه "لغتهم" بدل أن يقول كلمة "اللغة العربية" التي يكتب بها وكأنه ينظر إليها بتعال فهو الكاتب باللغة الفرنسية)، أو بعضه على الأقل، حتى تكون مادة للباحثين والجامعيين والقراء، مع أن غالبية، إن لم أقل جميع الأنظمة العربية لها قنوات اتصال دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع دولة إسرائيل؟"، ويحاول أن يحدد لنا الضرورات والمباحات والفوائد من جني ثمار هذه المهمة الممكنة ما دام الكل يفاوض ويتحالف علنا وتحت الطاولة مع إسرائيل وبقي فقط أن نترجم أدبهم حتى نفهم جيدا من هم؟ وكيف يجب أن نتعامل معهم؟ ونعرف فصلهم وأصلهم ونصادق صديقهم ونعادي عدوهم؟ فخلف هذا الأدب يمكن للسلام أن يبسط جناحه وتكف الآلة الصهيونية الجهنمية عن القتل والتجويع اليومي للشعب الفلسطيني.. ولن يبقى هناك صراع متأصل ونمسح كل سنوات المقاومة، وحتى نطمئن أكثر لما يبشر به الروائي فهناك كما كتب أدباء عرب إسرائيليين نهتم بهم كإميل حبيبي وسميح القاسم، وميشيل حداد، ونزيه خير، وسهام داود، ونداء خوري، وأنطوان شماس، وستعيننا ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى العربية في الإسترشاد بالطريق والسبيل: "لندخل التاريخ فنعرف الجميع ونقرأ الجميع، من إخوان وأصدقاء وخصوم وأعداء، أو أن نبقى على حافة الطريق، القطار يمشي ونحن نسبّ بعنتريات لغوية، أو نتباكى على الماضي تارة وعلى أنفسنا تارة أخرى".

لم يخرج ما قاله الروائي في مقاله واضمره بشكل مطلق وبذكاء مرموز، عن سياقات مكررة هندسها العديد ممن يلهثون وراء شهرة ناقصة مفضوحة لا تنفجر على مشروع واع متبصر بالأمور وراهن التاريخ القريب الذي يقول أنه عندما ينجلي الغبار تتضح الرؤية أكثر، وأنت مهما تقربت من العدو لن تنال منه إلا السراب والوهم والخضوع، ومهما تعرفت عليه سيبقى في خانة عدوك الذي يحذر منك ومما تفعله مهما كانت أريحية روحك وشساعة تسامحك وسعة قلبك للحوار.

والسؤال الأهم هل سيقبلك هو بك أنت المتواطئ والمخذول والتابع والخانع لأنظمتك الفاسدة القمعية وحكامك الطغاة الجبابرة؟ هل سيرتاح لك وأنت تعرض عليه أدبك وفهامتك وشطارتك وهو بجرة قلم يمكنه أن يجر حكامه إلى المحاكم ويقتص منهم؟ هل ستقنعه بروعة شعرك أو رواياتك وهو يراك متزلف ومتمسح وفيك مغالطات تاريخية في روحك وعقلك وهندامك وأكلك وشربك؟ هل ستثيره كتاباتك وهو يقرأ أنك مجاور للكبت والعقد والرداءة ومحب للقمع والتسلط؟ هل سيطمئن لك وأنت تضرب تحت الحزام ونمام وواش ومخبر وتبيع وطنك من أجل عيون بهية؟

ما لم يقله الروائي في مقاله يفضحه الواقع العربي العازف عن القراءة والكتابة والعلم والعقل والتنوير التقدم والرقي، والإعتراف بالخطأ والشجاعة في أصعب الأحوال، وفي التمتع بالحرية أكثر وبعمق أكبر.. كتابه ونخبه ومثقفيه دراويش منتفعين وغشاشين يتعذر إصلاح أعطابهم وعطالتهم وبنية أجسادهم وأرواحهم، وفي أحسن أحوالهم يهتفون بحياة العسكر والمال، وينتظرون إشارات الرضى والقبول والجلوس في أحضانهم.

لا ينفتح مقال الروائي على أي شيء جديد خارق أو إستثنائي في المعنى أو في الرؤى ما عدا بعض الاهتمام هنا وهناك وبإيعاز ليقول إنني هنا في الخدمة وتحت الطلب، ولا يتقدم خرائط جغرافيات المستقبل التي تندر بمكان خال للعرب.. مكان يرمي فيه الآخر فتاته وها هو الروائي يقتات منه ويتقوت، حاملا جذوة علاها تشحذ خياله المتصارع مع خياله.