الشابّي يتحول إلى كاتب قصة في أخريات أيامه

الملتقى العربي لأدب الواحة والصحراء في توزر يحتفي بالشابي ويتأمل موقف المشارقة من شعره.
على الرعم من الغضبة التونسية ضد الشابي، إلا أن إلقاء الضوء عليه لم يتأثر منذ خمسينية ميلاده
أصيل الشابي يوضح في بحثه إلى أن تلقّي شعر الشابي يتطوّر باستمرار

رغم  نقمة العديد من الشعراء التونسيين المجددين على رائدهم أبوالقاسم الشابي، صاحب "إرادة الحياة" ووصفهم إياه بأنه الشجرة التي غطت الغابة بدعوى أن شهرته لم تسمح لشاعر تونسي بعده أن يتبوأ المكانة التي يستحقها إبداعه لإحراز الشهرة في المشرق والمغرب العربيين مثلما حدث للشابي؛ شاعر العمر القصير الذي نال الكثير منذ ولد في عام 1909 وفارق الحياة عام 1934 نجمًا في سماء الشعر العربي بعد أن تبنته "جماعة أبوللو" في مصر ونشرت له مجلتها الشهيرة، وبشر به روادها أحمد زكي أبوشادي وصحبه.
أقول إنه على الرعم من هذه الغضبة التونسية ضد الشابي، إلا أن إلقاء الضوء عليه لم يتأثر منذ خمسينية ميلاده التي عقدت في عهد بورقيبة في مسقط رأسه "توزر" في بلاد الجريد في الجنوب التونسي، بحضور الوزير الأول – آنذاك - محمد مزالي، ووزير ثقافته البشير بن سلامة وهي الاحتفالية التي كان من المشاركين فيها أسماء كبيرة مثل: سعد مصلوح وجابر عصفور ومختار الوكيل ومحمد عبدالمنعم خفاجي وعبدالعزيز شرف، إلى الستينية التي تجدد فيها احتفال تونس بالشابي، إلى الدورة الثالثة لمؤسسة جائزة البابطين التي حملت اسم أبو القاسم الشابي التي عقدت في مدينة فاس المغربية بحضور محمد السادس وقت أن كان وليًا لعهد المملكة المغربية، إلى هذه الندوة التي عقدت قبل أيام في "توزر" ذاتها من خلال نشاط الجمعيّة التونسيّة للتنشيط الثقافي والسياحي تحت إشراف المندوبيّة الجهويّة للشؤون الثقافيّة هناك، ووزارة الشؤون الثقافيّة، وحملت اسم "الملتقى العربي لأدب الواحة والصحراء" الذي اتّخذ له في دورته الثانية هذا العنوان: "البيئة الثقافيّة زمن الشابي"، وذلك بالاشتراك مع معهد تونس للترجمة.
 افتتحت الدورة بكلمة الجهة المنظّمة في شخص الصّحفي محمود الأحمدي، وإدارة الكاتب محمّد بوحوش،، ثمّ زار الضيوف "روضة الشّابي" لقراءة الفاتحة على روحه الزكيّة.
 ومع بدء الجلسات العلميّة تحدث محاضرون على مدى ثلاث جلسات كانت ثريّة بالنقاش والتحاور مع الحضور.
وتنوّعت المداخلات، فتحدث جلّل عزّونة عن مكوّنات المشروع الثقافي التحديثي في زمن الشّابي"، وتطرق عمر حفيّظ إلى حداثة القصيدة وسياقاتها، وتأمل حسين العوري رسوم البيئة الثقافيّة في رسائل الشابي ومذكّراته، وتناول أصيل الشابي كيفية تلقّي المشرق العربي لقصائده، فيما تناولت ورقة محمّد آيت ميهوب الشابي قصّاصًا، وكانت ورقة الطيّب الحميدي عن عبقريّة الشابي (ديلكتيّة البيئة والذات المبدعة)، ودرس مصطفى بوقطف الرومنطيقيّة من اتّجاه فكري إلى سمت شعري كما عكستها قصائد الشّابي، في حين توقفت صبرة الذويبي أمام الحركة الرومنطيقيّة وتأثيراتها في شعر الشّابي.
وقد خلص أصيل الشابي في بحثه إلى أن تلقّي شعر الشابي تطوّر باستمرار، وأنّه قاد، نتيجة تقليب نصوصه، وتجميع ما خفي منها وإعلانه للنور، إلى توسيع مجال النقد وتدقيقه وتحويله من مجرّد الآراء الانطباعيّة الانفعاليّة إلى التركيز على الخصائص الإنشائيّة المتحكّمة في بنية النصّ الشعري والمولّدة للخطاب الشعري بما هو تعبير عن رؤية لها خصوصيتها. وقد أتاح هذا التطوّر إبراز مظاهر متنوّعة من تجديد الشاعر تتّصل بالأسلوب والأفكار، كما تتّصل بأهميّة الرمز الأسطوري والخوض في كتابة قصيدة النثر وما يعنيه ذلك من تجاوز لقوانين البيت الشعري الموروث.
ولعلّ الشابيّ استطاع أن يصوغ ما هو إنساني صياغة ذاتيّة تحدّدت في سياق تجربته الشعريّة، كما تحدّدت في سياق ثقافيّ في إلزامات كثيرة وقيود كثيرة شكليّة ومضمونيّة، فكان ملتزمًا بالقضيّة الوطنيّة، ولكنّ هذا الإلزام لا يفهم إلاّ في إطار معان إنسانيّة كالحريّة والإرادة والعزم والتحرّر من تبعيّة الفرد لسلطة الآخر، ومن العوامل المساعدة على هذا رمزيّة شعر الشابي، لا الرمزيّة اللّغويّة، وإنّما الرمزيّة الأسطوريّة، وهي التي تدفع بالمتكلّم الفرد في الشعر إلى الواجهة، تطالعنا أسطورته بعد أن تذرّعت بأسطورة أورفيوس وبروميثيوس، فمن خلال أسطرة الذات تتحقّق القوّة والإرادة ضمن مفهوم "الأنشودة"، وهو مفهوم لا يؤسّس فقط أهميّة الإيقاع في شعر الشابي، وإنّما قدرته التخييلية المنسجمة مع حاجة الأسطرة إلى ذلك. 

ويقول رياض المرزوقي، تأكيدًا لقيمة الرمز عند الشّابي،: لاجدال في أنّ الشابي هو أوّل شاعر تونسي، بل ونكاد نقول "أوّل شاعر عربي" توسّع في استخدام الأسطورة عن وعي، وحاول تأسيس عالم أسطوري نظر من خلاله إلى الدنيا والناس. ولا تتحقّق بسبب من هذا قراءة هذا الشاعر قراءة دقيقة إلاّ في ضوء أنّ شعره، المنظوم منه والمنثور، إنّما هو كتابة من جنس قرائي يبنيها القارئ كما يبنيها الشّاعر في إطار ما يسمّيه الشابي "الخيال الشعري" الذي يتجاوز الخيال البلاغي القياسي. ويستتبع مثل هذا المنحى أنّ التأويل القرائي ضرورة حتّى يخرج النصّ، ضمن دائرة التلقّي، من الحرفيّة وتغليب الواقع والتاريخ على الحقيقة النصّية.
 ويؤكد أصيل في ورقته على أن تلقّي شعر الشّابي سيتعمّق أكثر لأنّ بنية الرّمز التي تسنده في مظهره الحداثي تجعل من النصّ منتجا لتأويلات وقراءات تعيد صياغته باستمرار.
ويهتم بحثه بأن الشابي أثار بشعره جدلًا واسعًا تعلّق بقيمة النصّ الشعري وإضافته النوعيّة، ورُمي، في مناسبات كثيرة، بأنّه مقلّد، كما رُمي غيره، ووجه في أحيان أخرى بأنه نقد انطباعي لا مراعاة فيه لشروط النصّ الإنشائيّة والجماليّة التي تتركّب بفضلها رؤية الشّاعر، غير أنّ هذا الجانب ظلّ محدودًا، مقارنة بما حظي به من اهتمام ناتج عن انخراطه في حركة التجديد الشعري؛ لغة وأسلوبًا ورؤية. 
وإذا كان الشابي يُستدعى إلى اليوم بقوّة، لا فقط على ألسنة الأفراد، وإنّما أيضًا على ألسنة الجماهير في تمرّدها على الأنظمة المستبدّة، فإنّ في ذلك دلالة عميقة على أنّ هناك حاجة ملحّة تدعو إلى التعبير من خلاله عن الإرادة الإنسانيّة التي لا تدرك الحرّية إلاّ بها. وإذا كان الشّابي قد حقّق ما حقّق من شهرة فإنّ ذلك لا يُفهم إلاّ ضمن سياق الثقافة العربيّة الإسلاميّة التي واجهها بأسطرة ذاته وضمن مدرسة أبولو التي حضنت إبداعه وإبداع غيره من الشعراء.
أما محمد آيت ميهوب فيختار موضوعًا يلمح استغراب المتلقي منه من مجرد مطالعة عنوانه فيقول: لفرط ما ارتبط اسم الشابي، بالشعر، ولفرط ما ارتبط الشعر التونسيّ باسم الشابيّ، غدا من الصّعب على القارئ أن يقبل أنّ للشابيّ إسهامًا آخر في غير ساحات الشعر وأن يراه مرتديًا لباسًا آخر غير عباءة القصيدة. صحيح أنّ  الناس يعرفون له نقدًا أدبيّا ومقالات ومحاضرات ألقاها في مناسبات أدبيّة ودينيّة ووطنيّة محدّدة، وصحيح أنّ له يوميّات كتبها في شهر ونيّف من حياته، ورسائل بعث بها إلى ثلّة من صحبه، ولكن أن يكتب القصّة فهذا أمر مختلف تمام الاختلاف. فمن المعتاد أن يضع الشعراء على هامش إبداعهم الشعريّ نصوصًا في النقد أو السيرة الذاتيّة، أمّا أن يتحوّل الشاعر في لحظة من لحظات تجربته الأدبيّة من نمط إبداعيّ يعتمد الوزن والإيقاع والإيحاء والتكثيف اللغويّ، إلى نمط آخر أدواته التأطير في الزمان والمكان والتعيين والتشخيص والاتّساع في القول، فذلك أمر يستوجب التأمّل والبحث.
على هذا النحو أثارنا الوقوع على نصين قصصيّين لأبي القاسم الشابّي صدرا في أخريات حياته، وبعث فينا الفضول والرغبة في البحث والتمحيص، قائدنا في ذلك سؤال جوهريّ يتفرّع إلى سؤالين آخرين: هل نحن في هذين النصين إزاء قصّاص؟ وما الذي دفع الشابّي إلى أن يحاول كتابة القصّة القصيرة؟ وهل من دلالة أدبيّة ثقافيّة عامّة لصدور هذين النصين في بداية ثلاثينيات القرن العشرين؟
النصّان القصصيّان اللذان هما مدار حديثنا هما: "روح ثائرة" و"سعيد المجدوب"، وقد صدر أوّلهما في مجلّة "العالم الأدبيّ" سنة 1932 وأعيد نشره في مجلة "الفكر" التونسية سنة 1967، أمّا ثانيهما فقد صدر أوّل مرّة في مجلّة "العالم الأدبيّ" أيضًا سنة 1933 وأعيد نشره فيما بعد كذلك في مجلّة "قصص" التونسية سنة 1984.
ويضيف ميهوب: رغم أن دارسي الشابي لم يُعْنَوْا كبير عناية بهذين النصين، فإنّنا مع ذلك نجد رأيين نقديين مهمّين تطارحا قضيّة الجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه نصّ "روح ثائرة". وهذان الرأيان هما لمحمّد الحليوي، وتوفيق بكّار.