الشاعر في مواجهة الاغتراب في 'جارة القمر' لكفاية عوجان

الحديث إلى النفس في قصائد الديوان وسيلة فاعلة مؤثرة في النفس الشاعرة، فهي تساعدها على التخلص من شعور الاغتراب.

يعد ديوان كفاية عوجان "جارة القمر" الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2022 حديثا أنثويا عالي الصوت عن اغتراب النفس الشاعرة، حروفه التي حملت مظاهر الاغتراب من النفس الشاعرة هي عناصر الطبيعة بألوانها وأشجارها وجبالها وبحارها وسمائها، التي انعكست عليها، وتلونت بألوان مشاعرها، إذ يظهر الشعور بالاغتراب جليا في أكثر دفقات الديوان، وتنتشر آثاره في نصوصه؛ في صوره ومعانيه، ليكون هو الخيط العميق الذي يربط النصوص بعضها ببعض.

ويظهر شعور الاغتراب في ديوان "جارة القمر" في الصور الشعرية المركبة والكلية، التي احتضنتها ثلاث وأربعون قصيدة نسجتها كفاية عوجان ضمن دفقات مكثفة على نول التفعيلة حينا، وعلى خيط نثر شعري قلبي ساحر ناعم حينا، والنصوص التي تمزج بين النثر والوزن حينا؛ وجاء صوت الأنا الشاعرة في ديوان "جارة القمر" عاليا ليتحدث من نوافذ أنثوية الروح واسعة، ومن أبواب بوح عالية الصوت شكلتها صور شعرية تعتمد الإيحاء أساسا،ً ويحدوها ضمير المتكلم الذي حمل المعنى على بساط من الأنا الشاعرة التي تسيطر روحها على قصائد الديوان.

ويتكرر ذكر علامات الاغتراب في قصائد ديوان "جارة القمر" ويتكرر وصفها، فالحديث عن الوحدة التي تعيشها النفس الشاعرة تكررت في أكثر من قصيدة، وتكررت الشكوى منه ومن العزلة التي تعيشها النفس الشاعرة، كما في تشبيهها نفسها بنجمة وحيدة، تقول[1]: "أنا نجمة وحيدة تعيش وحدها في عالم الأثير/تراقص أوهامها على عتبات السماء..."، فهي تعيش بقلب مصلوب على ذكريات ميتة، وبروح تائهة فقدت رشدها[2]: "مصلوب فوق جذوع العشق اليابسة/أم تبحث عن روح/تبحث في مجنة عن جنة/أو لست دري كيف يكون حال نجم قد تراءى/ من بعيد/مشتعل بالضوء لم يره أحد؟!".

وتخفي النفس الشاعرة في ديوان "جارة القمر" تحت عباءة شعرية مخضبة بعواطف يحدوها الحزن وصور وعبارات مكثفة نفسًا هشة متعبة من شعور الاغتراب وآثاره من حزن وشعور بالوحدة والضجر والقلق، وتحاول أن تصبّر نفسها، وتشد من أزرها بطرق مختلفة منها اللجوء إلى الله، كما في قولها[3]: أصرخ الآه تلو الآه/ يا إله الكون امنحني النجاة.

ومع أن شعور الاغتراب قد سيطر على دفقات كثير من قصائد "جارة القمر" إلى أن محاولات النفس الشاعرة لم تتوقف عن الثبات في وجه هذا اللفح المتعب من الشعور بالاغتراب، ومحاولة إعادة النفس إلى السير مع نبض الحياة والصبر على ما فيها من كل ما يزعج ويقهر ويقلق ويحزن؛ وتقاوم بكل ما تملكه من قوة هذا الشعور، فتستعين بالله حينا، وتهرب إلى الأحلام حينا، وتخاطب النفس مشجعة مصبرة حينا، فحين يقتل الاغتراب ما في النفس الشاعرة كله إلا شوقها، وتتعبها آثاره التي أثقلت رأسها، تنادي الله، وتسأله النجاة والفرج، وإخماد النيران التي تحرقها، وضجيج الكون الذي يثقل رأسها، وأن يمدها بالقوة؛ فهي ترى أنه هو الوحيد القادر على إخراجها مما هي فيه من بطش الاغتراب بها، تقول[4]: "الغربة تقتل ...إلا الشوق/ .../تخرج الآه من أعماقي بسجدة/وأقول: يا الله/ يا من تقدست أسماؤه الحسنى/وسبّحت له خلائق الوجود في علاه، وكل نبض فيّ صارخ: تعب هي الحياة/ اخمد ضجيج الكون في دمي/ لم يبق إلا دمعة أفضي بها إليك/نيرانها سالت على الشفاه/ فمن سواك/ يعيد روحي التعبى إلى حماك".

واللجوء للأحلام هو هروب واضح من الواقع المر الذي يغرقها فيه، لأن عنوانه الرئيس هو الشعور بالاغتراب، فقد اتكأت النفس الشاعرة في عتبات قصائد في الديوان على الحلم كما في: "حلم مغدور" و"كأنها في حلم" و"أحلامنا ترسو"، و"حلم". وتتردد لفظة الحلم في كثير من دفقات قصائدها كملجأ يتهدم أمام إعصار مشاعر الغربة التي تعصف بالشاعرة، أو تعين الشاعرة على مواجهة العصف المتعب لرياح الاغتراب، أو كملجأ تحث روحها للجوء إليه لتساعدها على الخلاص، فالنفس الشاعرة تحاول تخليص حلمها من الكوابيس لتصفو لها الحياة قليلا بعيدا عن شعور الاغتراب ووجعه، ولترسم صورة موحية لما تعانيه من اغتراب حيث لا سلام ولا أمان، ولا طمأنينة، وحيث تعيش تحت وطأة الخوف والقلق، تقول[5]: "فكل ما ترمي إليه شهرزاد /أن تطرد الكابوس من بحار حلمها/ وأن تنام ليلها الطويل /دون خوف من هروب عمرها/ من ملعب الأيام".

واللجوء إلى الحلم هو هروب معلن من الاغتراب، وفرار أباحته النفس الشاعرة لذاتها للبقاء على قيد الحياة، وللخلاص من متاهات الزمان المر، والواقع المتعب، تقول[6]: "في متاهات الزمان المر /قلبي في شتات.../ومنك أفر يا حلمي إليك".

والحلم هو دائرة أمان صنعتها النفس الشاعرة في بحثها المضني عن ملاذ آمن يوفر لها البيئة التي تحتضنها، فتجد هذا الملاذ في الحلم، الذي يحملها على جناح الخيال إلى بيئة جديدة ومجتمع جديد هو ذاتها، أو ما يبنيه حلمها من صروح وجدران ومدن أو ناس، تقول[7]: "وعلى ضفاف فضائه غرقى النجوم في غيم/يسوح بعالمي الكوني/حيث اللاحدّ َيأخذني/ إلى ذاك الفضاء الرحب/ حيث حلمت/أن الروح راحلة إليه".

وفي سبيل رفع المعنويات والتغلب على شعور الاغتراب تحاور النفس الشاعرة ذاتها وتحدثها فتشجعها، وتحثها على المضي في الطريق لتتجاوز المعيقات، والخروج من دوائر الاغتراب، فهي في قصيدة "إصرار" تنقل حديث نفس عاليا تحاول فيه تقوية نفسها، وإقناعها بأنها قوية وقادرة على البدء من جديد، تقول[8]: "لي قدرةٌ تعيد بدء الشوط من جديد/ فكل خفقٍ فيَّ يحمل البشارة/ روحي له شرارة". ومع أنها لا تشعر بالحياة إلا أنها تظل تحاول إليها، تقول[9]: "ها أنا أعاود الصعود باحثا عن شهقة الحياة كي أرى غلالة من نور".

ويرتفع صوت الأنا في قصيدة "سيرة غير مكتملة للأزرق" من ضمير المتكلم، ومن تكرار الضمير المنفصل المتكلم (أنا) اثنتي عشرة مرة في محاولة النفس الشاعرة لمد ذاتها بالقوة لتستمر في دربها، تقول[10]: "أنا الخلاص ...والأسر/ أنا من أهديت ابنة اليمامة مني كحلا/ وشققت لها المدى فحلت عليها لعنة /السماء".

والحديث إلى النفس في قصائد الديوان وسيلة فاعلة مؤثرة في النفس الشاعرة، فهي تبشرها بالنجاة والخلاص[11]، وتساعدها على التخلص من شعور الاغتراب، وهي إشارة واضحة إلى ما تعانيه النفس الشاعرة من قلق وارتباك وتشتت، إذ يتكرر الحديث عنها في أكثر من قصيدة، وفي أكثر من دفقة شعرية، ففي قصيدة "شهرزاد" يحمي الشعر النفس الشاعرة من الموت؛ فهو طوق النجاة لها من هذا الاغتراب الذي يحاول قتلها، فبعد أن جعلت النفس الشاعرة شهرزاد مرآتها التي تعكس حالها تدفقت الصور الشعرية لتصف حال الاغتراب في صورة كلية تمددت على القصيدة كلها، فإذا هي تخاف الصمت والشرود، وتمتطي شجر الكلام، وتطوف بالأسماع لتبقى على قيد الحياة[12]: "يقول بعض الحاضرين والرواة/ بأنها تلفق الأحداث في فنون قولها/ لكي يكون السرد سلما إلى طوق النجاة/ تخاف الصمت والشرود شهرزاد/.../تفتش عن نجاة من حريق الغاشية".

وفي قصيدة "بريد لا يصل" تشجع النفس الشاعرة ذاتها وتبشّرها بالخلاص في حديث نفسي تتكرر فيه أفعال الأمر، التي تحمل بالإضافة للطلب التشجيع ومحاولة تقوية الثقة بالنفس ومعاني أخرى، فبعد أن وصفت حال الاغتراب التي تخنقها حتى أوصلتها إلى القول بأنه لا أحد يستحق زهرة العطاء، بدأت بمحاولة إعادة الثقة للذات من مجموعة متتابعة من أفعال الأمر: توقف، فتابع، وألقِ، واطرد، ودع، واحضن، واتكئ. وتبقى آثار الاغتراب وأسبابه حاضرة في البال، فتطلب من ذاتها أن تحذر من الوقوع في شباك الثقة لئلا ينكسر قلبها مرة أخرى.

وتثق النفس الشاعرة أن ثمة دربا تؤدي لدرب الخلاص الذي تنتظره، فعلى الرغم من كل هذا النكران والخذلان، وانكسار الثقة الذي تواجهه إلا أنها تظل تحث نفسها على المضي في طريق الحب وزراعته في مدى الأجواء، وتظل تحاول التأقلم، وتبشر نفسها بتغير الحال، تقول[13]: "توقف/ فثمة درب تؤدي لدرب الخلاص...فتابع عطاءات روحك/ وألقِ أشتال المحبةِ في مدى الأرجاء/ لا بد يزهر الوجد على عرش القلوب".

والتبشير بالخلاص من الاغتراب وآثاره كثيرة في الديوان؛ ففي قصيدة "قلب من ياقوت" تبشر النفس الشاعرة بأن الحلم بالخلاص ما زال حيا، وبأن الطريق، التي ترسمها أحلامها لها لتنقذها من الغرق، تقول[14]: "فما زالت دروب الحلم تحملنا /وتنبئنا /بأن طريقنا المفروش بالحبق/سيوصلنا وينقذنا من الغرق".

والتحبيب بالحياة والترغيب بها يدفع النفس الشاعرة لمعاودة الاتكاء على الأحلام للخروج من حال الاغتراب، فهي تضع الذات بين خيارين: معاندة الضجر، أو الحياة في الأحلام في ميدانها الفسيح المؤانس، تقول[15]: "نفضت عن أحلامي الغبار/ ثم قلت يا نفسي/ هي الحياة/ خيالك الفسيح فيها صاحب مؤانس/فإما أن تعاند الضجر الممل بعزمك المقاوم/أو أن تظل هائما صريع حزنك الكسيح/ والهزائم".

وبعد، فقد نقلت كانت قصائد ديوان "جارة القمر" ونصوصه ميدانا لصراع نفسي عميق بين الاستسلام لشعور الاغتراب وآثاره ومقاومة هذا الشعور ومحاولة الانتصار عليه وعلى آثاره والتخلص منها، والوصول إلى الراحة والسلام باستخدام أكثر من طريقة وأسلوب وحيلة.

[1]عوجان، كفاية، جارة القمر، ط1، وزارة الثقافة، الأردن، 2022، ص81.

[2]المصدر السابق، ص71.

[3]المصدر السابق، ص148.

[4]المصدر نفسه، ص ص139-140.

[5]نفسه، ص11.

[6]المصدر السابق، ص109.

[7]، المصدر نفسه، ص30.

[8]نفسه، ص46.

[9]نفسه، ص92.

[10]نفسه، ص197.

[11]انظر، نفسه، ص ص 10، 15، 16، 36.

[12]المصدر السابق، ص10.

[13] المصدر نفسه، ص ص 16- 17

[14]نفسه، ص36.

[15]نفسه، ص32.