القطة السودا والشبشب المقلوب وخرافات أخرى

لماذا الخرافات تكتسب قوة كبرى أقوى من أي حقيقة، ولماذا الوهم يكسب معظم الجولات أمام العلم والحقيقة؟
أكثر خرافة كانت تخيفني، وأنا طفل، كانت خرافة أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة
من الخرافات المنزلية أن فتح وقفل المقص بدون أن تقص شيئا سوف يجلب النحس للبيت

والدتي ووالدي هاجرا من قلب الدلتا إلى القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، وكان والدي شيخا معمما أزهريا يعمل مدرسا للغة العربية والدين، ووالدتي كانت فلاحة فقيرة تعمل في الغيط والحقول قبل زواجها، وبالرغم من أنها لم تدخل مدرسة في حياتها، ولم تكن تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها كانت أما وزوجة وإنسانة ممتازة بالفطرة، وشاركت في تربية ونشأة طبيب واثنين مهندسين ومحامي واثنتان من ربات البيوت، وكان بيتنا دائما بيت علم ودين بسبب والدي، وأيضا فإن بيتنا كان مليئا بالخرافات التي ورثتها والدتي من نشأتها بالقرية، وبعض تلك الخرافات متوارث من أيام الفراعنة وبعضها من أيام سيدنا عكروت، فعلى سبيل المثال:
كنا إذا ضحكنا كثيرا، لا نصدق أنفسنا بأن هذا المرح والفرح سيستمر بل يجب أن يعقبه غم أو مصيبة، فكانت أمي تقول "خير ... خير ... اللهم اجعله خير"، وكنت دائما أسأل نفسي لماذا هذا التشاؤم، وكنت أعزو هذا لحياة الفلاحين التعيسة والقهر والفقر الذين كانوا يعيشونه، فكانوا لا يصدقون بل ويتشائمون من لحظات الفرح لأنه دائما "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"!
ومن الخرافات الأخرى؛ التشاؤم من رؤية قطة سوداء ليلا، طبعا رؤية قطة سوداء ليلا صعب جدا على أية حال! وأعتقد أن موضوع القطة هو تفرقة عنصرية ضد القطط السوداء بسبب اللون وهذا لا يجوز بموجب إعلان الأمم المتحدة لحقوق القطط.
وأكثر خرافة كانت تخيفني، وأنا طفل، كانت خرافة أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة، وهي العقاب لأي طفل لا يطيع كلام أبيه وأمه، سوف يأتيه إما أبو رجل مسلوخة، أو أمنا الغولة، تنتقم منه وتعلمه الأدب، وظللت أخاف ليلا من النوم كثيرا وخاصة إن كنت يومها قد عملت "عملة" سوداء!
وفي القرى كانوا يخيفون الأطفال من "أم الشعور" وهي عفريتة تسكن الترعة دائما ولا تظهر إلا ليلا لعقاب الأطفال الأشقياء.
وكثير من الخرافات ترتبط بالليل، حيث إذا هبط الليل في القرى وقبل دخول الكهرباء فكل شيء جائز في الظلام، وكل خرافة سرعان ما يتم تصديقها وتداولها عبر القرون.
ومن الخرافات التي زروعها في أبداننا ونحن في المدرسة الإبتدائية هي "غرفة الفيران"، وكان المدرس يقول لنا إن التلميذ الغشاش أو المخالف أو الذي لا يؤدي واجبه سوف يتم دهن جسمه بالعسل الأسود ويتم حبسه في غرفه الفيران (الفئران)، وسوف تلحس الفيران العسل الأسود من على جسمه وبعد ذلك سوف تبدأ في "قرقضة" جسمه، وقد كانت هناك غرفة قديمة في مدرستنا وعليها قفل صديء، ويبدو أنها لم تفتح من قرون، وكان المدرسون يقولون لنا: "هذه هي غرفة الفيران" وكنت أخاف أن أمشي حتى جوارها!
ومن الخرافات المنزلية هي أن فتح وقفل المقص بدون أن تقص شيئا سوف يجلب النحس للبيت.

ومن الخرافات الشهيرة الأخرى والتي دخلت عالم الغناء، هو أنه إذا كانت "العين بترف" فسوف تحل عليك مصيبة من نوع ما، حتى أنه كانت هناك أغنيات مشهورة عن "رفة" العين، مثل أغنية كارم محمود:
عيني بترف يا حبة عيني
يا إللي سرقتي النوم من عيني
والدويتو الشهير بين ليلى مراد ونجيب الريحاني:
عيني بترف وراسي بتلف 
وعقلي فاضل له دقيقة ويخف
وترد عليه ليلى مراد:
عينه بترف وراسه بتلف
وعقله فاضل له دقيقة ويخف
وهذه بعض الخرافات على الماشي:
رش المية عداوة.
رش الملح أثناء زفة العروسة لأصابة المعازيم بحصوة ملح في أعينهم دفعا للحسد.
الكنس بالليل إزعاج للملائكة.
دلق القهوة خير.
إذا سقط عليك من طائر في السماء شيء على راسك، سوف يجيئك الحظ.
إذا كانت يديك تهرشك فسوف تقبض نقودا.
وكل الخرافات ما عدت أؤمن بها ولا أخاف من أمنا الغولة أو أبو رجل مسلوخة أو القطة السوداء، باستثناء خرافة واحدة لا أستطيع التخلص منها ألا وهي خرافة "الشبشب" أو الحذاء المقلوب، فإن هذا فأل سيء، لأن نعل الحذاء أو الشبشب عادة ما يكون غير نظيف ولا يصح أن يتوجه للسماء، أيا كان سبب تلك الخرافة، فأنا لا زلت أؤمن بها حتى صباح اليوم وجدت حذاء مقلوبا، فلم يهدأ بالي حتى أعدته إلى وضعه الصحيح، وليس لدي أي تفسير بسبب حرصي على تعديل كل الشباشب والأحذية في العالم حتى أنني لو كنت في زيارة لبعض الأهل والأصدقاء لا بد من عمل التعديل على أي حذاء مقلوب.
والسؤال هو لماذا الخرافات تكتسب قوة كبرى أقوى من أي حقيقة، ولماذا الوهم يكسب معظم الجولات أمام العلم والحقيقة، ولماذا المبالغة تكسب المنطق والعادي، الحقيقة الوحيدة أمامي هي: أنا وأنت والإنسان والشجر والنهر والبحر والصحراء والغابة والحيوانات، الباقي كله اختراعات وأوهام نعيشها ونصدقها منذ آلاف السنين، لأن الوهم أجمل وأكثر أثارة من الحقيقة.
وبصفتي شخص علماني لا أؤمن إلا بالعقل والعلم حاولت بشتى الطرق والكبارى أن أتوقف عن عدل الأحذية المقلوبة فلم أتمكن، حتى أن الموضوع خرج من نطاق الأحذية إلى مناحي أخرى في الحياة، فما أن أجد شيئا مقلوبا حتى أحاول أن أعدله والموضوع أصبح مرضيا بحيث أفكر جديا في زيارة طبيب نفسي تخصص أحذية!