ثنائية في ذهن ساذج (2)

لماذا يحتجّ عوام الشيعة على ظلم السلطة والتنكيل بهم وهم يعتقدون ويوالون دولة غائبة وليس الدولة التي يقيمون فيها كمواطنين، وهم كذلك يطالبون بثأر وسفك دم؟
المسيحي يختلف تمامًا عن الشيعي في العراق كإختلاف الماء العذب عن الدخان الخانق
عاش المسيحيون في العراق كجماعة إيجابية لم تتخذ مواقف عدائية أو تنتظم في حركات خطرة

في البدء؛ ادعو القارئ الشيعي لتوسيع مداركه والانفتاح على نصوص وثقافات أخرى وإلا فإن حبيس الثقافة المغلقة والتصورات المحدودة سيجد ضنكًا ومشقة في التعامل مع كل ماهو خارج الصندوق.
قبل أن اشرع بكتابة هذا الجزء استذكرت نصًا من الإنجيل؛ رسالة بولس الرسول الى روما، وما يعنينا من الرسالة هو الإصحاح الثالث عشر: 
1 لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ،
2 حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً.
3 فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ،
4 لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.
5 لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.
6 فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا، إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذلِكَ بِعَيْنِهِ.
7 فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ.
8 لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ.
9 لأَنَّ «لاَ تَزْنِ، لاَ تَقْتُلْ، لاَ تَسْرِقْ، لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ، لاَ تَشْتَهِ»، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى، هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هذِهِ الْكَلِمَةِ: "أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ".
10 اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرًّا لِلْقَرِيبِ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ/ الإنجيل، رسالة بولس الرسول الى أهل رومية.
النقاط "الأعداد" العشرة في الرسالة الكتابية -والرسالة تتكون من ١٤ عددا- تقنن علاقة المسيحي بالسلطة وجهاز الحكم للدولة، ولمّا كان هذا هو الموصى به كتابيًا عاش المسيحيون في العراق كجماعة إيجابية جلبت المنفعة للبلاد ولم تتخذ مواقف عدائية أو تنتظم في حركات خطرة، وللأسف فقد دفع المسيحيون نزوعهم السلمي ثمنًا باهظًا إذ تراجعت اعدادهم بسبب التهجير والقتل وضرب كنائسهم مما أدى لتحولهم لأقلية في العراق، وظل المجال واسعًا للإقتتال الشيعي السني المُشيد على أسس دينية تاريخية روائية، وفي نفس الطائفة اقتتال وتنافر وجهود حثيثة للإقصاء، فالنص يلعب دورًا محوريًا في حركة الجماعة، وجماعة الشيعة لديهم نصوص وجّهتهم ولقرون، وهي نصوص تؤكد على ما يوصف بـ"المظلومية" حتى أن تراثهم ينقل أن حصان الإمام الحسين عندما شهد مقتل الحسين رجع الى المخيم ناحبًا يصرخ: الظليمة الظليمة لأمة قتلت ابن بنت نبيها.. وهكذا استمر الشيعة يندبون ويولولون ويرفعون الصياح بالمظلومية في مواكب لاطمة ومسيرات الزيارة المتفجعة، وللنص فعل عميق في نفوس شيعة العراق، ففي كل عام يمر بالجماعة شهر محرم فتتشح الأجساد بالسواد وتصدح مكبرات الصوت بالمراثي والبكّائين وتُلطم الصدور والوجوه وتُشج الرؤوس بما يُعرف بشعيرة "التطبير" وتنقلب مناطق الشيعة الى مجلس عزاء صاخب يمتد الى العاشر من محرم حيث ذكرى مقتل الحسين ومن معه فيسترجع الشيعة الذكرى بما يُعرف بـ"التشابيه" وهو عمل درامي شعبي يُعيد تمثيل المقتل، وهذا التمثيل الدرامي يجري في مناطق الشيعة بجودة فنية تتفاوت من منطقة لأخرى.
على الرغم من وصول شيعة العراق للسلطة والحصول على مقاعد كثيرة في البرلمان ومنصب رئيس مجلس الوزراء إلا أن عوام الشيعة مازالوا يعيشون في أجواء المظلومية، أي أنهم يعيشون ذهنيًا في البلاء، هم في قرارة أنفسهم يشعرون بمرارة الإبتلاء، ويذرفون الدموع من فرط ما يعانون من ظلم نفسي، ففي أنفسهم توجّع راسخ، وهو راسخ بقوة النصوص التراثية المثيرة لحماسة الثأر والثورة والرفض لكل سلطان دنيوي لا يترأسه الإمام المعصوم!
على أرض الواقع؛ لم تكن النصوص المسيحية الوافدة الى العراق تحريضية، ولم تجرِ عملية صلب المسيح على أرض عراقية، عكس القضية الحسينية؛ نص وحدث جريا على أرض العراق وكلاهما يدعو للثأر ويُحرضان على القصاص من احفاد القتلة سواء أكانوا احفادًا بالجسد أو احفادًا بالفكر، والشيعة يعتبرون كل من يخالف عقائدهم كفارًا يناصبون الحسين العِداء والبغض، وعلى هذا الأساس التكفيري يطعنون بأئمة المذاهب السُنية الأربعة، بينما استمرت ترانيم السلام وصلوات الإيمان وتسابيح المحبة في كنائس العراق قرونًا، فالمسيحي العراقي يختلف تمامًا عن الشيعي العراقي، كإختلاف الماء العذب عن الدخان الخانق، ونحن أهل مكة وأعلم بشعابها.
في نفس المكان الطقسي؛ يمكن لك أن تتعرف على شكل التثقيف الديني للجماعة، وأمامك الكنيسة والحُسيّنية، تجمع المسيحيين وتجمع الشيعة، ولتأخذ وقتًا مناسبًا لإجراء المقارنة.
هذا العنف والتعنيف "أحد أشكال التعنيف اللطم، وكذلك التطبير" ولّدا جماعة تدين بالحقد، وتعتقد بالفرادة الطهرانية "من الطُهر" فهي لا تحمل بشارة أو خبرًا سار "معنى كلمة انجيل البشارة أو الخبر السار، والكلمة يونانية" بل تتحامل على البشر بدافع من نص تحريضي وهو نص نقل لنا أن الحسين حمل السيف وليس الصليب وشتان بين العقيدتين.
كيف لمن يحمل جمر الثأر أن يُطالب بالرحمة أو يدعو للتراحم، والشيعة يعتقدون أن الراية الإعلانية التي سيحملها المهدي المنتظر عندهم مكتوب فيها "يالثارات الحسين" بينما صُلّب يسوع المسيح وهو الله الحال بالجسد قربانًا عن البشر لمغفرة الخطايا أي إنه الكفّارة البديلة عن الناس، ولكَ أن تلاحظ الفارق بين: مقتل أنتجَ ثأرًا، ومقتل أنتج مغفرة.
لنقرأ النصوص المؤسِسة: 
الأمانة والصدق تفرضان عليّ البوح بالتالي: 
الجهاز العصبي للنصوص المؤسِسة للوعي الشيعي العراقي -وأغلب شيعة العراق جنوبيون أو ينحدرون من الجنوب- هو الأدب الشعبي الناطق بلهجة جنوبية، ويكفي أن نستذكر أو نتعرف على القارئ الحُسيني السيد جاسم الطويرجاوي والمُلّا باسم الكربلائي إذ أن حضورهما في ذهن عوام الشيعة يفوق نصوص كل كُتب الشيعة، وهذا الجهاز العصبي الأدبي-الشعبي تشكّل في أغلبه من القصائد الرثائية والحماسية وهي أضعاف مادة التحريض الموجود في منهاج البحث العقائدي والمنقولات التاريخية، فالعباس في القصائد الشعبية رجل القبيلة البطّاش الذي ذهب لجلب الماء لعيال الحسين وواجه آلاف المقاتلين على "المشرعة-ضفاف النهر" وقاتلهم بكل قوة وهو يطلق الأهازيج:
"إني أنا العبـاس أغدو بالسقــا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى" 
حتى قطعوا يديه وسملوا عينه وضربوا جرة الماء بسهم فأريق مائها وقضى ممزق الأوصال، هذا ما تنقله القصائد الرثائية والحماسية من على منابر عاشوراء، وعندما علم الحسين بحال أخيه المزري في ساحة المعركة توجه له مسرعًا وأزهق في لحظته روحًا من الأعداء ثأرًا لأخيه، وندبه وأعلن أن مقتل العباس كسر ظهره لأن الأخ يشد ظهر أخيه في الملمات والشدائد، وهذا بعينه أدبيات الصلاة بين افراد القبيلة البدوية فالفرد لا يُحسب له وزن ويُهان أن كان وحيدًا بلا عصبة من أخوة، ووفق ذاك المنطلق ستحمل راية المهدي العبارة التالية: يالثارات الحسين. وكلمة ثأر في اللغة تعني: ان يقوم أولياء الدم "أقارب القتيل" بقتل القاتل نفسه أو قتل أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم دون أن يتركوا للدولة حق إقامة القصاص الشرعي/ويكيبيديا.
فارق بين نصين:
قال رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم):
إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَبْرُدُ أَبَداً.
مستدرك الوسائل: ج 10، ص 318
"سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ." (الإنجيل. يوحنا 14: 27).
لِمَ يحتج عوام الشيعة على ظلم السلطة والتنكيل بهم وهم يعتقدون ويوالون دولة غائبة وليس الدولة التي يقيمون فيها كمواطنين، وهم كذلك يطالبون بثأر وسفك دم، إنهم مواطنون غير مخلصين ودعاة دين غير سلمي.