جوخة الحارثي تكشف عن اهتمامها بأدب الأطفال

صاحبة "المنامات" و"سيدات القمر" تحظى بتقدير الجميع منذ ألقت بحثها "الطفل في الحكاية الشعبية".
الكاتبة العمانية ترى أنه من الضروري التمييز بدقة بين مدى استهداف الحكاية الشعبية للأطفال، ومدى ملاءمتها لهم
الكاتبة تنتمي إلى أسرة عمانية عريقة هي أسرة الحارثي المحبة للعلم والشعر والتي قدمت كثيرًا من وجوه الأدب العماني والمعرفة العمانية بصفة عامة

ثلاثة أيام جمعتني في العاصمة التونسية بأول كاتبة عربية تحصل على جائزة مان بوكر الشهيرة قبل أيام عن الترجمة العربية لروايتها "سيدات القمر" التي صدرت بالعربية عن دار الآداب، بيروت، 2010: الروائية والأستاذة الجامعية العمانية الدكتورة جوخة الحارثي، ابنة جامعة السلطان قابوس في رحاب الدورة السابعة لجائزة مصطفى عزوز لأدب الطفل في شهر إبريل/ نيسان من العام 2016، التي كان عنوانها: "صورة الطفل في الأدب العربي الموجه للطفل"، وهي الدورة التي كان ضيوفها من مصر: الكاتب يعقوب الشاروني، ومن الجزائر الدكتور العيد جلولي. 
وقد حظيت الدكتورة جوخة الحارثي بتقدير الجميع منذ ألقت بحثها الذي لا أزال أذكر عنوانه حتى الآن "الطفل في الحكاية الشعبية"، والذي نهض على محاولة الإجابة عن سؤال محدد وهو: هل يصح أن نقدّم الحكاية الشعبيّة للطفل؟
وقد استهلته جوخة بقولها: من الضروري التمييز بدقة بين مدى استهداف الحكاية الشعبية للأطفال، ومدى ملاءمتها لهم؛ فالحكايات الشعبية ليست موجهة أساسًا للأطفال، لكنها تنوقلت – جيلًا بعد آخر- عن طريق النساء في البيوت، ولا شك في أن الأطفال كانوا من المتلقين الرئيسيين لها، وإن لم يكونوا المتلقين الوحيدين، أو الجمهور المستهدف بالضرورة.
وأشارت الحارثي إلى أنه يجب ألا يغيب عن الأذهان أنه لفترات طويلة من التاريخ الإنساني – حين كان التعليم النظامي نادرًا أو مقصورًا على فئات بعينها من الناس - كان الطفل يستقي كل خبراته العقلية ونضجه النفسي من تجاربه المباشرة من جهة، ومن الحكايات الشعبية التي تتيح له الاندماج في المجتمع وفهمه من جهة أخرى.
ونبهت الحارثي إلى أن تقديم هذا اللون من الأدب للأطفال محفوف بكثير من الإشكالات، مما أنتج بعض الاتجاهات التي ارتأت منعَ تقديم الحكايات الشعبية للأطفال، وذكرت أن من يقول بالمنع استند إلى أن القصصَ موجهةٌ أساسًا للكبار عبر القرون، وإلى أن محتوى هذه القصص من السحر والكائنات الخرافية والجنس والعنف غير ملائم للطفل.  

jukhat alharithii
تقدير لكل مبدعة عربية

وأكدت أن بحثها يناقش هذه الحجج، ويفضي إلى أن القصة لكي تلفت انتباه الطفل يجب أن تسليه، وتوقظَ فضولَه، وتحث مخيلتَه، وتساعده على تطويرِ عقله وفهم انفعالاتِه، والقصة الشعبية تقدم هذا بامتياز.
وأوضحت أن بحثها هذا يسعى إلى مناقشة مميزات القصة الشعبية بالنسبة للطفل، من خلال عناصر القيم الإنسانية والأخلاقية، والسمات المحلية والعادات والتقاليد، وإثارة الخيال وتوسيع الآفاق.
أما بالنسبةِ لقضيةِ وجود شخصيات شريرة أو قاسية في الحكايات الشعبية، فيطرح البحث إمكانية النظرِ إليها باعتبارها عامل إيجاب لا سلب؛ فإن قوى الشر والعنف التي تواجه البطل تجسد الصراع الداخلي الذي يتحتم على الفرد أن ينتصر عليه في سبيل تحقيق ذاتيته وشخصيته المتكاملة.
وتخلص الدكتورة جوخة إلى أن تقديم الحكاية الشعبية للطفل يفتحُ له آفاقَ التعلم بقدر ما يسمحُ به نموه، فهي تخاطب الطفلَ بشكل رمزي ولا تفرضُ واقعًا ذا بعدٍ واحد بل تثير خيالَه تاركة له حريةَ الاختيار. إنها تتركُ الطفلَ يستنتج بنفسه ما يجب أن يفعله أو يختاره، وتساعده على تخطي عقبةِ عدم نضجه دون الخضوعِ للبالغين على شكل أوامر ونواهي مباشرة.
وأشارت الحارثي إلى أن الحكاياتُ الشعبية تتميز بأنها موغلةٌ في القدم، وبأنها عالمية، وهي – كباقي أشكالِ الأدبِ الشعبي – لا تصدر عن ذاتٍ فردية، وإنما عن الروحِ الجماعيةِ للمجتمع، ولذا لا نعرف لها مؤلفا بعينه، ولا يمكننا تحديدُ الحقبةِ الزمنيةِ التي ظهرت فيها هذه الحكايات؛ فالتساؤل عن أصولِ الحكاياتِ الشعبية يشبه التساؤلَ عن أصولِ اللغةِ والتفكير.
وأكدت أن الحكايةَ تشكل جزءًا مهمًا مما اصطُلِح على تسميته بالأدبِ الشعبي أو الفلكلوري، وهو الأدبُ الذي يدخل فيه بعض الباحثين الأسطورةَ والملحمةَ والأغاني الشعبيةَ والألغازَ والأحاجي، ويعبر عن حاجات الشعوب وأنماطِ تفكيرها، متعرضًا بسبب طبيعتهِ الشفاهيةِ لكثير من التحويرِ والتطوير تبعًا لذوقِ كل عصر وبيئة وظروفهما.
ومن أهم ما يلفت انتباهنا في الحكايات الشعبية عالميتها، وتشابه عناصر كثير من الحكايات في كثير من أقطار العالم، وتشتركُ الحكاياتُ الشعبية في أنها تحمل سمات محليةً وعالميةً في الآن نفسِه؛ ففي كل قصةٍ سماتٌ مشتركة تجمع بين جميع النصوص في التراث الإنساني، وسماتُ محلية لتعبر عن طبيعة المجتمع الذي يتداول القصة، فالرغبةُ في الحظ السعيد سمة عالمية، وكذلك ظاهرة التضاد والمطابقة في الحكاية، فهي سمة فنيةٌ مشتركة؛ فالشر والقبح والكسل والغباء صفات يقابلها الخيرُ والجمال والنشاط والذكاء، الصالح يجني ثمار عمله الطيب، والشرير يحصدُ ما زرع شوكًا، وأخيرًا ينتصر الخير وتتحقق العدالة. 
وتنبه الباحثة إلى أنه من الضروري التمييز بدقة بين مدى استهداف الحكاية الشعبية للأطفال، ومدى ملاءمتها لهم؛ فالحكايات الشعبية ليست موجهة أساسًا للأطفال، إلا أنهم كانوا من المتلقين الرئيسيين لها، وإن لم يكونوا المتلقين الوحيدين، أو الجمهور المستهدف بالضرورة.
وتذكر جوخة أن ممن آمن بملاءمة الحكايات الشعبية للأطفال، أندرو لا نج (1844-1912) الشاعر والروائي والأنثربولوجي، فقد انتصر لهذه الحكايات المثيرة للخيال، وكتب هو نفسه نسخته الخاصة من القصص الشعبية، التي استقى معظمها من مصادر فرنسية، خاصة من "شارل بيرو"، وقد ظهرت قصص "لانج" في اثني عشر كتابًا باثني عشر لونًا منذ 1889، ونالت حظًا من اهتمام الدارسين. وقد تحدث في المقدمة عن توجيه كتابه إلى الأطفال، معتبرا أن سؤالهم: "هل هذا حقيقي؟" هو أعظم سؤال يطرحه الأطفال.
أما المعترضون على إدراج القصص الشعبية ضمن الأدب الموجه للطفل فتتركز دعاوى اعتراضهم فيما يلي:
-    العنف: تقول سارة تريمر معلقة على حكايات ماما الإوزة لشارل بيرو: "إن الصورَ الرهيبة التي يقدمها هذا النوع من الحكايات، ويمد بها الخيال، تصنع عادة انطباعات عميقة وتؤذي عقولَ الأطفالِ الرقيقة بإثارةِ مخاوفَ غير معقولة ولا مبرر لها".
-    الجنس: في كثير من القصص الشعبية توجد إشارات إلى الجنس، أو رموز يمكن تأويلها باعتبارها رموزا جنسية، ففي قصةِ ذات الرداء الأحمر مثلا يرمز الذئبُ إلى الشاب المغوي، ويطلب من الفتاة أن تنضم إليه في السرير قبل أن يفترسَها، ولهذا تنتهي القصة في النسخ القديمة بمقتل الفتاة، باعتبارها تدفع ثمنَ خطيئةِ الغفلة وعدم الاستماعِ لنصائح الكبار، على أن النهايةَ عدلت في نسخٍ لاحقة ليُعاقَب الذئب لا الفتاة .
-    القيم السلبية: على اعتبار أن هذه القصص تحفل بالإيمانِ بالخوارق، وسلوكِ الهروبِ من المسؤولية، والاندفاعِ والطيش بلا مبرر، والمعتقدات الشعبية القديمة. يقارن عربي العاصي بين طفل الأمس واليوم: "الأميرة الساحرة، والجان، والخاتم السحري حكايات تجاوزتها الحياة الحديثة، وطواها الزمن، وأدخلت الحياةُ العصريةُ أدواتِهَا التي تتناسب مع طبيعتِها، وارتكزت على العلم ووسائلِه، فبدل بساط الريح أصبحت مركبةُ الفضاء، وبدل أن يكلمَ الطفلُ الخاتمَ السحري، يكلم العقلَ الالكتروني، وهكذا". وهذا الرأي ليس جديدا إذ نجده لدى هادي الهيتي الذي هاجم هذه القصص لأنها "وليدة عصور العبودية، والإقطاع كما أنها بالأساس لم تكتب للصغار، بل كان يتداولها الكبار في تلك العصور المتخلفة".

صاحبة جائزة مان بوكر
في رحاب الدورة السابعة لجائزة مصطفى عزوز لأدب الطفل

وبمجرد إعلان نبأ فوزه جوخة الحارثي بهذه الجائزة العالمية التي لم يسبقها عربي إلى الفوز بها من قبل، تواصل معي الروائي والناقد التونسي الدكتور محمد آيت ميهوب الذي كان رئيسًا للجنة تحكيم جائزة مصطفى عزوز، ومنسقًا لندوتها التي تعرفنا بالدكتورة جوخة الحارثي في رحابها، وقال معبرًا عن مشاعره تجاه هذا الإنجاز المهم: خالص التهنئة للصديقة العزيزة الدكتورة جوخة الحارثي على هذا التتويج العالمي المجيد.
وما من شك أنّ ما نالته جوخة من نجاح وتكريم يتجاوز إنجازها الفردي في الحقيقة ليشمل الرواية العربية بأكملها؛ فهذه الجائزة التي عادت بها رواية "سيدات القمر" لجوخة الحارثي تعد خطوة جديدة مهمة ترسخ حضور الرواية العربية في الحركة الروائية العالمية بعد الإنجاز العظيم الذي حققه معلمنا الكبير الخالد نجيب محفوظ. 
لقد عرفت الدكتورة جوخة أول مرة سنة 2015 عندما شاركت في ملتقى علمي نظمته وحدة الدراسات السردية بكلية الآداب بمنوبة في تونس، وكان موضوعه "القصة وسائر الأجناس والفنون"، وأتذكر أنها قدمت أثناءه محاضرة متميزة لفتت انتباه الحاضرين جميعًا.
أما العالم المصري الدكتور أحمد درويش الذي قام بالتدريس لها أثناء دراستها بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس حينما كان عميدًا لها فيقول عن جوخة الحارثي:
"لفتني أثناء تدريسي لها قبل نحو عشرين عامًا أنها كانت مبدعة ومتفوقة في قسم اللغة العربية التي درست فيه، ومما زاد من سعادتي أنها تنتمي إلى أسرة عمانية عريقة هي أسرة الحارثي المحبة للعلم والشعر والتي قدمت كثيرًا من وجوه الأدب العماني والمعرفة العمانية بصفة عامة.
وتابعت بعد ذلك كتاباتها الأدبية ومجموعاتها القصصية وروايتها الطويلة (منامات) وقصصها للأطفال، وكلها كتابات تعكس موهبة حقيقية وبعد نظر.
وهذا ما تأكد عندما ابتعثت للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة أدنبرة البريطانية فنبغت وحرصت على أن تكون وفية لتراثها العماني العريق، فضلًا عن اهتمامها بدراسة الأدب العربي القديم وتوقفها أمام قضايا الحب والأشواق في الأدب العربي القديم التي قدمت عنها دراسات قيمة.
  وقد عادت من بعثتها لتقوم بالتدريس في جامعة السلطان قابوس، ولتواصل مسيرتها العلمية والأدبية، وهي تتأهب هذه الأيام للترقي إلى درجة أستاذ في الأدب العربي بكلية الآداب.
 وجوخة الحارثي معروفة بهدوء الطبع وعدم السعي نحو الشهرة، وإن كانت حريصة على السعي نحو التجويد الذي أوصلها إلى نيل جائزة عالمية مرموقة مثل مان بوكر فكان ذلك تقديرًا لكل مبدعة عربية، ولمجتمعها العربي والعماني الذي يتفتح على المعرفة.