حسن مدن يتلصص على المُدن

الكاتب البحريني أراد أن يختصر تجربة المجتمع الإنساني المعاصر في كتاب.
المشي في شوارع وسط البلد بالقاهرة، وزيارة مكتباتها أو حضور حفل موسيقي، أو غنائي في دار الأوبرا، أو التجوال بين المعارض التشكيلية، يخلق متعًا كبيرة
إغلاق "المودكا" وسواه من مقاهي الزمن الجميل، علامات على أفول العصر الذهبي لشارع "الحمرءا" الذي كان شارعًا للحداثة بامتياز
طنجة المدينة والحضارة والتاريخ متوغلة في تاريخنا

عن "مؤسسة مسعى للنشر والتوزيع" في أوتاوا بكندا صدر كتاب "يوميات التلصص" للرحالة البحريني حسن مدن في 268 صفحة من القطع المتوسط.
 وفيما يبدو لي أن الإنسان يحتاج في هذا الزمان إلى أن يدوِّن كل حركة من حركات حياته اليومية ليثبت وجوده وانتماءه للعالم الذي يعيش فيه.
 وقد سنحت الظروف لحسن مدن أن يخرج من بلده البحرين إلى ربوع العالم؛ شرقًا وغربًا ليشاهد بعينه، ويلمس بقلبه ويدرك بعقله كيف يعيش الإنسان؟ وكيف يمارس وجوده؟ وما الفروق بين مجتمع وآخر؟
وكأن المؤلف أراد أن يختصر تجربة المجتمع الإنساني المعاصر في كتاب، ولذلك فهو حريص على أن يكتب كل ما يراه ويشعر به وكأنه يوقع بإمضائه على المكان وصفحة الزمان التي هي دائمة التحرك والتغير والتجدد، وكأنه يريد أن يمسك باللحظة، بأن يدونها ويسجل نفسه فيها ويضع انطباعه عنها، كما في هذه الملاحظة اللطيفة التي يضعها تحت عنوان جاذبي جميل هو "البحرين تختفي في شبرا!!"
يقول فيما كتبه: "المشي في شوارع وسط البلد بالقاهرة، وزيارة مكتباتها التي تعج بجديد الكتب وقديمها، أو حضور حفل موسيقي، أو غنائي في دار الأوبرا، أو التجوال بين المعارض التشكيلية فيها، ولقاء الناس الذين يشاطرونكم الهموم والهواجس والأفكار ذاتها؛ كل هذا كفيل بأن يخلق متعًا كبيرة بحيث لا يغدو زحام المدينة هو الموضوع المهيمن عليك. فمصر مجس فكري وثقافي وسياسي مهم.
 في "شقة الحرية" رواية الدكتور غازي القصيبي التي تحكي عن حياة طلبة بحرينيين ذهبوا للدراسة في القاهرة بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين، يتحدث عن مقر رابطة الطلبة البحرينيين هناك، تلك التي تقع - حسب وصفه - في شارع متفرع من ميدان الدقي، قرابة خمسين شابًا وعددًا ضئيلًا من الشابات يلتقون ليتبادلوا الأحاديث ويلعبوا الكيرم والبينج بونج واللشطرنج والورق.
 بين الحين والحين تقام أمسية ثقافية حيث تلقى القصص أو القصائد".
ونترك صاحبنا مع ذكريات المقارنة بين شبرا والبحرين، وغازي القصيبي وشقة الحرية، وأحلام الشباب في تلك الفترة.
هذه الحياة النابضة بالحيوية والرغبة في اقتطاف كل ما في الحياة من لذة ومتعة وجمال. بعد ذلك يأخذنا مدن إلى أوروبا، مستعيدًا مذاق القهوة في باريس؛ فمع أننا من بلاد مخترعة البن وزراعته، إلا أن لمقاهي باريس جوا آخر، ومذاقا مختلفا، وبالتالي ذكريات تطفو على السطح. 
وأتساءل: هل يستعيد الإنسان ما يمضي من حياته كما كان يستعيد شعراء الأطلال ذكريات شبابهم؟
الواقع يقول إن الحياة تتجدد في كل يوم، وكل يوم بالنسبة لك هو اليوم وما عداه هو الماضي الذي ذهب، أو المستقبل الذي لم يأت بعد، ولهذا فعش لحظتك ولا تفكر فيما مضى.
في المقهى الباريسي تذكر صاحبنا سلامة موسى، الذي جاء قبله بأربعين سنة ليتعلم ويعلم، وانتهى ومضى ومضت أيامه، ولكن الشيء الوحيد الذي لم يمض هو مذاق طعم القهوة في باريس!
ثم ينتقل بنا إلى مكان آخر، مدينة الأقصر، التي تشد السائح الأوروبي والغربي إليها، ولكنها لا تجتذب السائح العربي كثيرًا فهي بالنسبة إليه تمثل حضارة غاربة، بينما العربي يريد أن يعيش الحضارة الآنية.

لكن صاحبنا بهره في مدينة الأقصر جلال التاريخ في وادي الملوك، حيث شق الملوك الفراعنة لأنفسهم ممرات ممتدة في عمق الجبل، وبداخلها أقاموا مقابرهم المزدانة بالجداريات المدهشة التي مازالت تحتفظ حتى اللحظة بألوانها الزاهية وكأنه صنعت قبل سنوات قليلة، لا قرون.
وأمام معبد "هابو"، استرعى نظره مقهى مفتوح على الهواء الطلق، مظللة مقاعده لتقي الجالسين حرارة الشمس، انجذب صاحبنا نحوه بشكل تلقائي مع مجموعة السائحين وجلسوا ليشربوا الشاي أو القهوة، وكان صاحب المقهى سعيدًا بوجودهم، واستقبلهم ببشاشة وسعادة، ودارت عينا صاحبنا في المكان فاستلفت نظره فتاة سمراء جالسة برفقة رجل أنيق، وفتاة بيضاء ذات عيون زرقاء وأخرى ذات عيون خضراء.
سرح وسبح في ألوان العيون وقامات الفتيات والنسوة، وأناقة الرجال، ونسي أين هو، ولم يذكر إلا أنه يريد أن يكتب حتى لا تنسرب منه هذه اللحظات الجميلة التي لا يستطيع الإنسان أن يشعر بإنسانيته دون أن يعيشها.
أما في "طنجة" فيذكر مقهى "الحافة" والكلمة اسم على مسمى، فـ"الحافة" هي حافة المدينة، وحافة البحر، وحافة الحلم، ما من فاصل بين البحر والمقهى؛ لحظة شيده صاحبه "البا محمد" عندما كان شابًا فتيًا عام 1914.
و"طنجة" المدينة والحضارة والتاريخ متوغلة في تاريخنا، فهي نقطة انطلاق نحو عوالم قرأنا عنها في الكتب، لكن أن تكون على أرضها فإنك في وضع يمكنك من الإمساك بزمانين.
بوسعك تخيل تفاصيل حكاية تقول إن طارق بن زياد كان يجلس على حافة الشاطئ ليس بعيدًا عن مكان هذا المقهى، ويحدق في البيوت التي تظهر في الأيام الصافية كطيف على الضفة الأندلسية ليشغله الفضول نحو اكتشاف ماذا هناك، قبل أن يرسله موسى بن نصير إلى حيث الحلم. 
بوسعك أيضًا أن تتخيل ابن بطوطة، وهو من أهالي "طنجة"، كيف أبحر هو الآخر من مكان ما قريب على هذا الشاطئ قاصدًا الحج، لكنه في الطريق إلى هناك طاف العالم ليصبح فتحًا في عالم الرحالة الذين أرَّخوا للأمصار والأقوام.
ويعرّج المؤلف على "بيروت" لحضور مهرجان للشعر العربي، ويستعيد كلمة محمود درويش: "نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت"؛ أي أن الذهاب إلى بيروت لا يحتاج تفسيرًا أو سببًا لذلك، فالمدينة آسرة بهواها وبحرها وجبلها وبشبابها وصباياها، وحيوية الحياة فيها.
قلت لنفسي وأنا في بيروت: لم لا أقصد شارع الحمراء الذي لي فيه من الذكريات الكثير؟ فقطعت المسافة بين "الروشة" حيث يقع الفندق الذي به أقيم على الكورنيش، إلى منطقة "رأس بيروت" حيث "الحمراء" مشيًا على الأقدام، فقادتني رجلاي نحو "النُزلة" التي كانت تعرف بـ"بنزلة البيكاديللي" التي كانت تُفضي إلى مقهى "المودكا"، والذي يقع على أكثر من تقاطع، وإن أقرب وصف له وأدق هو ما جاء في مطلع أغنية "فيروز": "في قهوة على المفرق".
على بعد خطوات منه كان يقع قصر "البيكاديللي" الذي هو عبارة عن مسرح ودار سينما. هنا قدمت أهم أعمال الأخوين رحباني، وفيروز ونصري شمس الدين، يوم كانت ألوان الدنيا وردية. 
وعلى المفرق المقابل منه كان يقع مقهي "الويمبي" الشهير الذي دخل التاريخ وبخاصة بعد أن سجلت فيه أول عملية لجبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي. صدمت بأن "المودكا" لم يعد في مكانه، لم يعد من مقهى، وإنما محل لبيع الملابس، وأولئك الذين كانوا يتحلقون حول طاولاته لم يعودوا هناك، ولم تعد من طاولات على الرصيف، ولا نقاشات في الثقافة والفن والفكر، ولا عشاق وأكاليل فل وياسمين يدور بها الصبية على الطاولات ليبتاعها المحبون كي ترتاح على جيد المحبوبات.
 إغلاق "المودكا" وسواه من مقاهي ذاك الزمن الجميل، علامات على أفول العصر الذهبي لشارع "الحمرءا" الذي كان شارعًا للحداثة بامتياز.
وهكذا يستمر حسن مدن في معايشته للمدن والأماكن يريد أن يضع توقيعه على كل بقعة زارها ليتحول هو أيضَا إلى تحفة أثرية  يسترجعها الناس في عصورهم التالية.