حِواريون وحَواريون؛ الحراك: وماذا بعد؟

يعرف الجزائريون ماذا كان قبلا. ومن حقهم أن يعرفوا الآن ماذا بعد.

لن يهدأ الحراك ما دام هناك من ينفخ في مساماته ويزيد من ضجيجه.

ولن تنجح لجنة الوساطة والحوار في ردع الشارع ما لم تخرج أصلا من الشارع.

وليس بمقدور العسكر أن يجد مسالك إلا إذا سمى رجاله وخرج بنفسه إلى الشارع والتقى بساكنيه.

هذه هي القناعة الراسخة الآن في الوجدان وفي الضمائر وفي العقول وعند حتى من ينظر إلينا من خارج الوطن.. فالكل مقتنع ومؤمن أن العسكر هو الوحيد القادر على أن يحلحل الوضع ويرتب أمور الدولة من جديد، ومهما أجتهد متفيقوه الوضع والساسة والخبراء والأصدقاء والمحللين ورموز الإعلام في الظهور بمظهر النأي عن خوض غمار هذا الأفق،  فلا أحد بإمكانه أن يحرك العصا السحرية ويقول ها نحن قد وصلنا إلى بر الأمان والسلام.. فلحد الآن كل بوادر الانفراج سواء تلك التي تأتي من ظهراني السلطة أو الموحى بها إلى الأحزاب أو تلك التي تتصارع النخب في تقديمها على تنوعها مرفوضة وغير مقبولة ولا تلبي الرغبة والنهم والعطش والجوع للحرية والاستقلال كما يتردد الآن في الشعارات التي أنبثقت من أزقة وشوارع الجزائر.

أنفلت الشارع من عقاله ولا شيء يبدو سيوقفه وكأن الكل أستحلى هذا اللعبة الغريبة والعجيبة التي بات يصنعها الحراك  كل جمعة وفي أيام أخر.. لعبة الرفض المستعصي والقسم الأبدي على اللاعودة إلى الديار ما لم يتغير كل شيء يذكر       أو يشير إلى حقبة العصابة وتوابعها وزوابعها.. لعبة ظاهرها لافت وجميل وباطنها مملوء بالطلاسم والمجهول.

دام الحراك إلى الآن أكثر من 5 أشهر.. تحققت أشياء وبقيت أشياء أخرى ضاغطة في قائمة التحولات تنتظر، عزل الرئيس في برهة مشخوبة بالقلق والتوتر ومصير غامض، جاء العسكر من صمت الثكنات ومن أغوار الثغور ومن بقع الحذر وحدود اليقظة فأصبح العصب والقبضة والضربة الحديدية والدائرة التي يلتف حولها القول والفعل والمستقبل، برزت جماعة العصابة تولت الحكم ونصبت وسرقت ونهبت ثم تتالت مصطفة إلى السجون كأنهم بنيان مرصوص، قاد الحراك بطرق شتى عفوية أو مدروسة أجيال من أعمار مختلفة.. وركب القطار آخرين يتحينون فرص القنص والخطف والإلتحام مع الضوء في أي مكان وزمان.. لا يهم متى؟.. وكيف؟.. ولماذا؟.. المهم أن يتشبثوا و"خلاص".. حلم آخرين بالورود وآخرين رأوا الشوك في الطريق.. نام البعض وهو يتوق أن يلج قصور الملك ولو لدقائق معدودات ليتنعم بالملمس الحريري للأمر والنهي.. تمنى كل واحد في لحظة سحرية أن يكون ضمن الصفوف الأمامية للشاشة العملاقة التي تظهر الوجوه العريضة والإبتسامات الماكرة والتكشيرات المصطنعة.. من لم يرغب أن يكون في لجنة الستة؟ من لم يراوده هذا السؤال ومن لم يشأ أن يكون هو في هم؟.. من لم ير نفسه في كريم يونس أو لالماس أو في عبو أو في الثالث الآخرين..      يا لإغراء السلطة.

سيظهر الغضب والحنق وسيصل إلى حد تخوين هؤلاء في كل موقع وزردة وفي كل نقاش فلسفي أو فايسبوكي ليس لأنهم بشر من لحم ودم وطيف.. بل لأنهم جزائريين اختارتهم يد العلي القدير أو من يتخفى وراءها ليقودوا الدفة ويسطروا المرحلة من جوف الحوت أو من برج أجوف.. فالأمر ليس هينا مع حراك متلاطم ومتداخل وهش، كل واحد تتزين في رأسه "قراقيز" وعرائس ولجان ومنافذ وسبل وطرائق قدادا للظفر بمواقع قادمة وزاحفة في منظومة السلطة.

وإن تنبأ البعض بقصر عمر اللجنة ولن يعدو سوى أياما وستنهار تحت ضربات يعاسيب الفايس بوك ومن لا يرضى بالنصيحة والمشورة والخلاص من بين أقوام الأحزاب وجماعات "القرقابو" ودعاة الفراغات و"الفرغان" وأتباع "الزيطوطات" وحب الأزمات والزعامات، أو فراعين الإعلام والتنظيرات السمجة، فالوضع الآن أشبه ما يكون بحلقة مفرغة عقيمة تكشف ليس فقط عن ضعف التحكم به، بل في نبذ كل حل يوفر الوقت والأمل لرؤية لمعان الطريق الصحيح للإنفلات من التأزم الذي يخنق الجو العام للبلاد.

يخبرنا التاريخ لمن لا يقرأ.. أن الحوارات بين طرفين غير متكافئين صعب ومضن ولعوب ومخيب وناجح في الكثير       من المرات.. الرسول (ص) الله عليه وسلم جلس وفاوض وجادل أشرس أعدائه من قبيلته وقومه وحتى من اليهود وأنتصر.. المجاهدون "تواعنا" قارعوا وحاوروا وافتكوا من أنياب المستعمر جلدنا وأرواحنا ومصيرنا.. كانت الحوارات مفاتيح للمغاليق.

فما الذي يحول دون أن يتم ذلك بيننا؟.. ولماذا يبدو الأمر معقد لهذه الدرجة أم أن الحراك على عفويته وسذاجته في بعض الأحيان و"تخشونية الراس" في الكثير من المرات، أجترح لنفسه قناعة صارمة لا رجعة عنها مفادها أن لا ثقة في أيا كان مهما كانت مقترحات بسمته ومخارج ضحكته؟.. أم أن المتخفين وراءه توجسوا الوساوس والريبة والشك من أن تنجح المساعي في ترتيب الأحوال والمقامات ولن يكون لهم نصيب من النصيب وهاهم يتحضرون ويحضرون ويبثون روح الضعف والخذلان والإنتكاس، كأنهم هم وحدهم الأقدر على الحوار، والحلول تجري فقط بين أنهر أيديهم والباقي محض طين ملوث ومكدر. 

فالصيغ والوجوه والأقنعة والتحركات والصولات والجولات والرسائل والخطب والصحف والمواقع والعلاقات والكواليس والدوائر والمخابر و"الذبان" كلها مجتمعة لم تفد في أي شيء.. لم تقلب الموازين ولم تحسن الديكور.. الشارع بقي هو هو طولا وعرضا يزمجر ويصيح ويصرخ وينادي ويغرد.. لم يمسه الوهن ولا الضعف لأن من يتظاهر اليوم لا يفعل بالضرورة ذلك غدا.. الآلاف ليست هي هي في كل مرة.. هناك ما يشبه تبادل الأدوار بتنويعات مختلفة.. وكلهم بهم شيء من "حتى"، وكلهم يقول: أنا الساحر والسحر، الزعيم والزعامة، أنا الثائر والثورة، أنا "الحارك" والحراك، أنا الأفضل والفضل، أنا السابق والسبق.

الرموز التي صالت وجالت واشترطت وتبجحت وتقدمت الصفوف وعاثت في الحراك وعضعضته وشحنته ونالت منه     ما نالت تكاد تختفي خلف الحجب والغيب وتتربص لتشيع في الصفوف ريب المنون ما لم تكن هي وحدها الجمهورية الجديدة والتاريخ الجديد والسلطة الجديدة والجيش الجديد والحكم الجديد والناس الجدد.

السلطة أو النظام أو مهما كانت تسميته وألقابه عنيد عنيد فهو من رحم هذا الشعب العنيد، تنازل بسهولة وسلم، يبحث عن نعال جديدة وألبسة حديثة ليتقي شر البرد القادم أو خيره.. لا أحد يعلم..

في هذه المعمعة و"الخلوطة" يريد العسكر أن ينأى بنفسه عن كل هذا، ولكنه يجد نفسه المعني الأول بالأمر أحب ذلك       أو كره، وأحب من أحب أو كره من كره.

فهل يرضى الحراك بحواري العسكر كبدائل واضحة للحوار بمعنى خروج وجوه عسكرية تكسر نمط التواصل وتحتك مباشرة بشوارع الحراك بدون وسطاء مفترضين من السوشايل ميديا، أو من قيل أنها رموز الحراك، وهي لا تعرف حتى من يتصل بها وعلى أقل تقدير حائرة من أين تبدأ الوساطة والحوار.. أمن الشارع الحار أم من الأمكنة المكيفة والآرائك المريحة؟

يأبى الحراك ويرفض حَواري السلطة ولن يتعاطى معها أو يأخذ منها شيء، ولن يمنحها تفويضا مطلقا مهما كانت المغريات والمحاسن والمكاسب والتنازلات، ذلك على الأقل ما توحي به أولى القراءات والعلامات، ليظل السؤال الملازم للحراك معلقا على سجف الريح: وماذا بعد؟