رحلة الحنين في 'الباص الأخير'

فيلم الأسكتلندي ماكنون يدور حول مطرقة النوستالجيا التي تعصف بنا وتجعلنا مرهونين بسحر المكان الأول، نبحث عنه نتوق إليه، نتنفسه وكلما بلغ بنا العُمر عتيّا كلما التف هذا الوطن الأول حول أعناقنا.

يدور فيلم "الباص الأخير" الذي أخرجه الأسكتلندي ماكنون، حول مطرقة النوستالجيا التي تعصف بنا والتي تجعلنا مرهونين بسحر المكان الأول، نبحث عنه،نتوق إليه، نتنفسه. وكلما بلغ بنا العُمر عتيّا، كلما التف هذا الوطن الأول حول أعناقنا.

الفيلم يتحدث عن كهل اسمه توم يستخدم بطاقة السفر المجانية التي تُمنح لكبار السن، للسفر إلى أقصى البلاد حيث طفولته وشبابه، وعشقه لشريكة حياته التي توفيت قبل عام، لذلك وجد نفسه أعزلا إلا من ذكرياته، وحيدا، بائسا، فيقرر أن يسافر إلى أقصى البلاد الأسكتلندية، مستخدما الحافلات المختلفة التي تتبدل حتى يصل إلى غايته، حيث حافة البحر التييتوقف بها الباص كآخر نقطة في البلاد.

  في رحلة توم  يتمّ استعراض الحياة كما هي، بدون رتوش، بشراستها وإلفتها، بقسوة الناس أو طيبتهم، باللحظات المشرقة أو المعتمة، من خلال أنظار كليلة لكهل حفلت سنواته بالامتلاء والخواء، بوسامة الشباب وقُبح الشيخوخة. الباصات تستغرق في سيرها لقطع المسافات، والأمكنة تتبدل، ولكن توم مصرٌّ على الوصول نحو آخر موقف باص، من خلال هذهالرحلة المشبعة بالمتاعب، والناس بمختلف ميولهم وسلوكهم وطبيعة أخلاقهم، يستعرض لنا المخرج المجتمع الذي يرسو على أرضية هشة، هي أرضية متحركة، غير ثابتة. الشاب العنصري الذي يضايق امراة منقبة، تبدو أنها مسلمة، وكيف أنها الوحيدة التي عرضت على توم أن تمنحه مقعدها، ولكنه رفض بلباقة، ولكنّ هذا الشاب بدأ بالاعتداء اللفظي التي تفوح منه رائحة عنصرية، ورغمضعف جسد توم فقد واجه الشاب العنصري بشجاعة، مما حدا بجميع الركاب أن يحذو حذوه، ويطردوا الشاب العنصري من الباص، وهذه التفاتة جميلة من الفيلم في رفض الكراهية والعنصرية بين الناس.

حينما يتعرض الكهل توم لحادث في أحد الباصات، يجد نفسه في إحدى المستشفيات، وقد عومل بشكل لائق يعبر عما وصلت إليه اسكتلندا في الخدمات الصحية، ولكن توم يهرب من المستشفى، فرغم أن جسده الهزيل، لكنّ في هذا الجسد، يرقد طفلٌ يريد أن يتحرر من قوانين الشيخوخة وضعفها.

في موقف آخر وحينما ينتهي أحد الباصات التي يستقلها توم في قرية نائية، يجد نفسه تائها في الليل تحت وابل من المطر والبرد، ولكن عائلة ذات بشرة سمراء تحمله إلى منزلها وتعتني به، ثم سرعان ما يتعلقون به وكأنهم يعرفونه منذ فترة طويلة في موقف إنساني مؤثر، يجعل من البشر أخوةً في المشاعر، فليس ثمة أعمق من الروابط بين البشر بغض النظر عن اختلافهم، لأن محرك السمو والصدق والمشاعر النبيلة ، هي القواسم المشتركة بينهم.

في هذه الرحلة لتوم العجوز نحو النهايات، نكتشف عيّنات مختلفة من البشر، في صمتهم وقهرهم، في عواطفهم وغضبهم وحزنهم، ومنهم تلك الفتاة الجميلة التيأجهشت بالبكاء، فما كان من توم حتى ربت على كتفها، فوضعت رأسها على صدره، وكأنها تستنجد به من قسوة الأيام.

لقد التقى توم في تنقلاته بسائقي حافلات رائعين وآخرين عكس ذلك، التقى بمهربين ووافدين وعاهرات ومدمنين، التقى ببشر مختلفين في الفنادق والبارات والمطاعم، كما التقى بنقيضهم من الناجحين في الحياة.  ولكنه في كل ذلك يحمل رائحة الذكرى لزوجته، ففي كل منعطف تبدو له، وكأنها الحلم الجميل، يتأبطان ذراعي بعضهما وينغمران في الحب،حيث قضى أسعد أيام حياته معها، منذ الشباب حتى غادرته في الكهولة. يتذكر طفلته التي ماتت بعد عام واحد، يحمل صورتها ليضعها تحت شاهد القبر، حيث كُتبت لافتة عن اسمها وولادتها في1950، ثم وفاتها عام 1951.

 حينما وصل إلى المحطة الأخيرة، وجد الكثير من أبناء  منطقته في استقباله، فالكل يريد الاحتفال بقدومه،ولكنّ توم لم يكترث لحرارة الاستقبال، كان مذهولا ومرتبكا، التفت إلى البحر، وفتح حقيبته الصغيرة التي تحتوي على بعض ملابسه، وصندوق خشبي، فتح هذا الصندوق، ثم رمى ما بداخله من بقايا رماد جسد زوجته، تناثرت حبيبات الرماد بين أمواج البحر، ثم ساد صمتٌ يوحي بأن توم قد أدى مهمته بالعودة الأبدية إلى الوطن.

لقد طرح الفيلم جملة من الحقائق، ومنها أن الحياة هي باص ينقلك من مكان إلى آخر، فمهما اختلفت المحطات فإن اتجاه البوصلة يقودك إلى الجذور.

 كما يطرح الفيلم مفهوم القوة التي لا تكمن في عنفوان الجسد، بل بقدرة الروح على اجتراح المستحيل.