شومان: الجائحة أهدتني كتابي عن الإبداع الشفاهي

الشر ليس غرضًا إلهيًا، لكن البشر هم الذين تفننوا في إبداعه، وفي جعله رسالة يبعثون بها إلى ضعافهم ومهمشيهم.
لأن هذا الوباء موجه لكنه فقد بوصلته ليصيب قلب من وجهه فإن النجاة ستكتب للفقراء والمهمشين على سطح الكرة الأرضية
الاستثناء أن تنتج الأزمة أو الحرب عملًا فارقًا

 يرى شاعر العامية المصرية، الباحث في الموروث الشعبي، وصاحب الإسهام البارز في مشروع "أطلس الفولكلور"، ورئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" المصرية أن وباء كورونا المستجد الذي يرعب العالم منذ مطالع هذا العام 2020 يدعونا إلى تأمل ما يمكن تسميته بفلسفة الشر، ولماذا صار الشر جزءا من آليات حركة الوجود؟ وهل هو أصلي أم مخلوقً؟
 فالشر ليس غرضًا إلهيًا، لكن البشر هم الذين تفننوا في إبداعه، وفي جعله رسالة يبعثون بها إلى ضعافهم ومهمشيهم.
 ولكنه في هذه المرة ارتد إليهم، ليجعلهم يتساءلون من جديد عن كُنه فلسفة الشر بل وماهيته، فالوضع الذي ساد العالم بعد أن استشرى فيه هذا الوباء أو هذه الجائحة البشعة ساوى بين الشعوب، بل لعل النجاة منه ستكتب للفقراء والمهمشين، وإن كنا نتمناها لتلك الإنسانية التي اخترعت أصنام الشر، وخلقت دستورها الشرير، والتي رسخت لفلسفة الشر.
 ويضيف مسعود: والواحد منا أمام ما يراه صار مرتبكًا، يتحسس ضعفه الإنساني وخوفه وهوانه على أخيه الإنسان.
 ولعل أكثر ما أثارته هذه الجائحة هو هذه الأسئلة الكثيرة التي تضاءلت أمامها الإجابات الجاهزة، ومنها؛ لماذا صار القتل والإرهاب والمرض معولمين؟ ومن الذي يتحكم في أزرار ضخ تلك الأمراض الكونية؟ وهل هذا الوباء موجه؟ وهل تم في لعبة من ألعاب المصادفة؟
ولأن العالم لا يعرف الصدفة، فأرى أن هذا الوباء موجه، ولكنه فقد بوصلته فأصاب قلب من وجهه، وعليه فلا بد من إعادة اختبار آليات فلسفة القمع بالمرض والسيطرة بالفيروس، والهيمنة باختراع العلاج من جديد، وإلا فلينتظر الإنسان نهايته ونهاية العالم أيضًا.

العالم لن يتغير للأفضل، بل للأسوأ، إذا لم يعِد صياغة نظريته في فلسفة الشر، وفي نهب ثروات المجتمعات الفقيرة، وإذكاء الحروب والصراعات في بؤر كثيرة من العالم

يقول مسعود شومان: دعنا نقرأ سؤالك هكذا: هل كنا بحاجة لوباء كي ننتج أدبا عظيما، وهل تخرج الآداب العظيمة من رحم الخوف والقهر والوحدة، والحروب؟
ويجيب قائلًا: أظن أن الاستثناء أن تنتج الأزمة أو الحرب عملًا فارقًا، لكن الأدب لكي يكون بصيرًا وعميقًا يحتاج إلى تجارب إنسانية، وخبرات يكون هدفها الإنسان لا قهر الإنسان وإفقاره وإمراضه، وجعله في حالة من الخوف بل الهلع على الحياة نفسها. فكيف له أن يبدع في ظل هذا الخوف والقلق الوجودي.
وإن كان هذا الرأي الذي أبداه شومان لا يمنعه من أن يساير الهدف الذي كنت أرمي إليه بسؤالي فيقول: أظن أن أكثر الأنواع الأدبية رصدًا لأجواء الظروف الاستثنائية ستكون الرواية؛ سواء كان ذلك متعلقًا بالأوبئة أو الحروب أو البراكين والزلازل.
أما الشعر فإنه يتعامل مع التفاصيل الإنسانية الشفيفة عبر الصورة الشعرية، ويمكن أن تذكر واحدة من الروايات العظيمة، مثل "الحرب والسلام" لتولستوى، و"الطاعون" للكاتب الفرنسي الجزائري الأصل ألبير كامو، ورواية "الأيام" لطه حسين، و"البلدة الأخرى" لإبراهيم عبدالمجيد، ومجموعات قصصية لقاسم مسعد عليوة، ولمحمد الرواي تميزت كثيرًا في تصويرها لقسوة الحرب، ولبطولات جنودنا البواسل.
كما استطاع الشعر، وعلى وجه الخصوص شعر العامية عند: صلاح جاهين، وحداد، والأبنودي وسمير عبدالباقي في تصوير بعض الملامح الإنسانية في حروب مصر ضد عدوها.
كما أن هناك مجموعة من الروايات التي صورت وحشية الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي ظني أن هناك روايات ستخرج مصورة حال الذعر الوجودي، والقلق الروحي، وعلاقتهما بدور المؤسسات الدينية والسياسية وكيفية خلق أجواء إنسانية تسهم في دعم الإبداع.
ويوضح مسعود شومان كيف تأثرت أحواله كمبدع بسبب انتشار الجائحة في مصر فيقول: كنت أذهب لإنجاز أعداد مجلة "الثقافة الجديدة"، التي أرأس تحريرها، ونجحت عبر الوسائط الحديثة في التواصل - عن بعد - مع كتابها، وعقد اجتماعات مجلس التحرير لنشر ملفات المجلة؛ فكان أحدها عن تجربة الشاعر الراحل محمد عيد إبراهيم بين الشعر والترجمة، عبر مجموعة من الدراسات النقدية والترجمات والشهادات والقصائد، وملفًا آخر بعنوان "الأنوار البهية في صحبة الشخصيات الرمضانية؛ تضمن مقالات  عن: "أكلات رمضان على مائدة الوطنية المصرية"، و"المسحراتي شاعر الفقراء، وفنان البسطاء"، و"صناعة الفوانيس، و"الفوانيسجي..غزَّال النور في ليالي الشهر الكريم"، و"صنَّاع المشروبات الشعبية"، و"الكنفاني، وحلويات وقطائف مصر المحروسة"، و"الطرشجي.. أيقونة الطعم الحريف"، و"العطار، ورحلة إلى عشاق التوابل والأعشاب"، و"تاجر البلح.. الطعم الحلو من السكوتي للأمهات"، و"مذكرات ضيف على موائد الرحمن".
وملفًا ثالثًا عن "حُليّ المصريين، والارتحال في أنثروبولوجيا الجمال والزينة"، وكيف كان المصريون من عشاق التشكيل على الأحجار والمعادن، وكيف ربطوا الجمال بالأساطير والمعتقدات، فلم تكن الحُليّ بالنسبة إليهم مجرد قطعة من حجر أو معدن فحسب، بل كانت وثيقة على زمن، وآية على قدرة المصري على بعث الفن وجعله كائنًا حيًا عبر مادة ميتة، فضلًا عن ملف رابع عن الشاعر والباحث الراحل الدكتور يسري العزب.
ونحن نوشك الآن على الانتهاء من ملف كبير ومهم عن النيل وتجليه في الشعر والرواية والمعتقدات الشعبية والتقاليد المصرية.

وبفضل سعة الوقت لبقائه في البيت، فقد انتهى مسعود شومان من تأليف كتاب ضخم كان العمل فيه معطلًا بسبب ضيق الوقت، يتناول فيه الإبداع الشفهي عند قبائل البجا في منطقة الجنوب الشرقي لمصر: "حلايب"، "أبو رماد"، "شلاتين"، ويتناول الكتاب أثر الاتصال الثقافي على  أنواع الإبداع الشفهي، ولا سيما الشعر الشعبي، والحكاية الشعبية بوصفهما من الفنون الأثيرة التي أبدعتها الجماعة الشعبية هناك؛ حيث يمثل إبداعها جزءًا مهمًا من وعي هذه الجماعة الشعبية بحياتها، بداية بأولى خيـوط دورة الحياة التي تبدأ بالميـلاد، و"السِمَاية"، والتهنين.
مرورًا بشعر الغناء الشعبي في المناسبات المهمة كالزواج بمراحله المختلفة، أو الأشعار والحكايات المرتبطة بالممارسات اليومية؛ كالعمل بأنواعه، فللجماعة الشعبية طبيعتها الخاصة، إذ لا تخلو مناسبة أو ممارسة لها من إلقاء أشعار أو سرد حكايات شعبية (مؤداة ـ مغناة) ترتبط بها.
ولكون اللغة تمثل إحدى تجليات الثقافة في مجتمع البجا؛ حيث يتواصل أفرادها بلغة يطلق عليها البعض "لغة التوبداويت"، ويسميها آخرون "لغة البجا" نسبة للقبيلة وتفرعاتها.
ويعتبر مسعود شومان أن أسوأ ما حدث له من جرَّاء هذا النمط الجديد للعمل من داخل البيت هو أنه عاد للتدخين، وأصيب بهذا الهوس المرتبط بالحذر في التعامل مع أمور الحياة كافة، فضلًا عن أنه صار المكلف بجلب كل ما يخص البيت من حاجيات صغيرها وكبيرها، بالإضافة إلى حالة الطوارئ الدائمة نظرًا لأن ابنته الكبرى تستعد لمواجهة تجربة امتحانات شهادة الثانوية العامة.
أما الإيجابية الكبرى لهذا الوضع الاضطراري الجديد فهي عودة الحياة للأسرة، ولتفاصيل كانت غائبة عنه، وعن ببيت العائلة الكبير، ومنزل أسرته الصغيرة، وكيف أنه فوجئ بتقصيره الذي كان السبب فيه حالة لهاثه وراء لقمة العيش، وسعيه خلف أوهام مجد الكتابة التي تبين له أنها لا تساوي شيئًا أمام رعايته لأسرته.
أما الإيجابية الثانية فتمثلت في القراءة واستعادة مشروعاته الثقافية الكبرى التي كانت متوقفة. وقد أنجز منها الكثير أثناء التزامه بالبقاء في البيت، وستخرج مجموعة منها إلى النور قريبًا.
 كما أن العزلة المؤقتة عززت قدرته على الإبداع مع الاختلاء بالذات ومساءلتها الأسئلة الوجودية التي يتيحها انتشار المرض، وموت عدد كبير ممن يعرفهم.
وعلى ذكر العزلة الإجبارية يقول مسعود إنها شعور روحي ونفسي لا يمكن أن تبدده أية تكنولوجيا، فهو لا يظن أن التكنولوجيا كانت منقذًا للبشرية من وحدتها، وأمراضها وقواهرها.
مضيفًا: بل أكاد أقول إنها فعلت العكس حينما جعلت كل واحد منا محبوسًا داخل جهازه الخاص، بل وجعلت الموبايل وطنًا للبعض منا، واللاب توب بيتًا وشارعًا للبعض الآخر؛ ففقدوا إنسانيتهم لصالح الكائنات الأثيرية التي يتعاملون معها.
لكنه يتحفظ بعض الشيء عندما يذكر أن ما قاله لا يعني أن التكنولوجيا كلها شر، فالعبرة بمن يستخدمها، وبمن يوجهونها للسيطرة على الوعي العام الذي جعلنا مجموعة من الجزر التي تعاني الوحدة، ولا توجد لها شواطئ آمنة يمكن أن ترسو عليها الأحلام.
ويرى صديقي أن العالم يزداد توحشًا، وقد رأيناه أكثر وحشية مع المرض، وفي ظنه أن العالم لن يتغير للأفضل، بل للأسوأ، إذا لم يعِد صياغة نظريته في فلسفة الشر، وفي نهب ثروات المجتمعات الفقيرة، وإذكاء الحروب والصراعات في بؤر كثيرة من العالم.