عبدالله سرور كان يحلم بافتتاح أول نقابة لعلماء مصر

صداقة السنين التي ربطتني بسرور منذ كان يعد أطروحته للدكتوراه ومتابعته الرائعة للإبداع السكندري واكتشافه للكثير من رموزه البارزة.
إنسانية الدكتور عبدالله سرور وكيف أخرجت الأديب مجيد طوبيا من الكهف؟
رحلات لأسوان لنتعرف على ضخامة ما تم إنجازه في المشروع القومي
عبدالناصر والنكسة في الشعر العربي

كالصاعقة وقع عليَّ أمس نبأ وفاة صديقي الدكتور عبدالله سرور، الناقد الكبير والأستاذ بجامعة الإسكندرية، ومؤسس نقابة علماء مصر، متأثرا بجائحة كورونا. وتذكرت صداقة السنين التي ربطتني به منذ كان يعد أطروحته للدكتوراه ومتابعته الرائعة للإبداع السكندري واكتشافه للكثير من رموزه البارزة ووقوفه إلى جانب الرواد والبارزين من مبدعي الإسكندرية، ولا سيما الشعراء منهم: عبدالمنعم الأنصاري، وعبدالعليم القباني، وأحمد السمرة، ومحمد مكيوي، وفؤاد طمان، وعلي الباز،ـ وأحمد فضل شبلول، وجهوده للتنقيب عن القصائد المفقودة للشاعر المجدد خليل شيبوب الذي خصه بأكثر من كتاب حقق فيها قصائده ووثقها قبل أن يصدر كتابه المهم عن تطور الشعر العربي في مصر.
وعلى الرغم من اعتنائه بالشعراء وإصداره كتابًا حول عبدالناصر والنكسة في الشعر العربي، فإن الدكتور عبدالله سرور لم يكن بعيدًا عن فن الرواية وعالم الروائيين لا في الإسكندرية فحسب، حيث يعيش، وإنما في كامل الأقاليم المصرية.
ولا زلت أذكر جيدًا ذلك اليوم الذي هاتفني فيه قبل عدة سنوات ليبلغني بتردي حالة الروائي البارز مجيد طوبياـ وكيف أنه يعيش حياة قاسية لا يكاد يتصل فيها بأحد، واتفق معي على أن نلتقي بعد أيام لنقوم بزيارته. وكان، وبالفعل فوجئت بمجيد طوبيا الذي بدا كشيخ عجوز ذي لحية كثيفة، وتوجس شديد من الغير، وتأكد لي ولزوجتي - التي حرصت على حضور هذا اللقاء بأحد أساتذتها في فنون السرد - أن صلة طيبة تربط مجيد طوبيا بالدكتور عبدالله سرور بدليل هذه الحميمية البادية في تعاملهما، ولا سيما أن الدكتور سرور توقف بنا قرب بيت مجيد طوبيا القريب من سور الكلية الحربية بمصر الجديدة ليشتري عددًا كبيرًا من سندوتشات الفول والطعمية بالبيض والباذنجان المقلي لنتناول جميعًا إفطارنا مع مجيد طوبيا.
وقد لفتني أن مجيد عندما قدم له الدكتور سرور هذا الإفطار قال له بصوت لا يخلو من انكسار: أنا لم أتناول لقمة منذ أكثر من يوم، فانزعج الدكتور سرور وقال له: "ولماذا لم تتصل بي؟ أنا بقى لي يومين هنا في القاهرة عند ابنتي!"
وحاولت التخفيف من ثقل دلالة ما تسمعه أذناي فسألت الدكتور عبدالله: كم عمر صداقتك بمجيد؟ فأجابني: عرفته منذ وقت طويل، وكانت المعرفة في البداية من باب الأدب، وفي تقديري أن مجيد طوبيا أحد أهم كُتَّاب القصة والرواية فيما أُطِلَق عليه "جيل الستينات في مصر"؛ فجمال الغيطاني، تأثر تأثرًا شديدًا بالعصر المملوكي، وسعى إلى محاكاة لغته وأجوائه، أما محمد يوسف القعيد فتراوحت أعماله ما بين محاولة العودة إلى الريف بما فيه، والتعبير عن المدينة التي نزح إليها فتوقف في "نص السكة"، لدرجة أن لغته الروائية تراوحت هي الأخرى بين العامية والفصحى، وهذا يكشف للناقد مدى ما عاناه هذا الكاتب من قلق وعدم استقرار.
أما مجيد طوبيا فوضع نصب عينيه من البداية محاولة الإجابة عن سؤال مهم هو: "من نحن؟"
ومن هنا نجح طوبيا في كتابة رواية مصرية، ولعل هذا ما يتبلور في ثلاثيته الضخمة "تغريبة بني حتحوت" التي أعجبتني كثيرًا فقررت الكتابة عنها، ولاسيما أن مجيد طوبيا عاش بعيدًا عن "دوائر الطبل والزمر الإعلامي"، ولم يكن كغيره من بعض أبناء جيله صاحب منصب صحفي يتحصن به، ويحصل من خلاله على المكاسب التي لا يستحقها، وبواسطته يفرض مؤلفاته على المترجمين والمستعربين ودور النشر شرقًا وغربًا، ليصبح الفارس الأوحد المعتمد في المحافل الثقافية الدولية.
ويضيف الدكتور عبدالله سرور: في بداية تعرفي بمجيد كنت أحضر من الإسكندرية لنلتقي هنا في مصر الجديدة في محل حلواني اسمه "خارينوس"، وعندما أغلق هذا المحل أصبحنا نلتقي في كازينو "أمفتريون" القريب من قصر الاتحادية. وقد كنت دائم التعبير عن إعجابي بهذه التغريبة التي أعتبرها جديلة تجمع ما بين الرواية التاريخية والسيرة الشعبية، وهي عمل روائي يعكس مدى عمق ثقافة مجيد طوبيا ودأبه على البحث ليخلص إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي أنه لا خلاص لنا من أزماتنا وضيقنا إلا بالعلم، وبالمناسبة "حتحوت" هي تحريف لـ"حتحور" التي هي إلهة الخصوبة والجمال والموسيقى عند قدماء المصريين.
فنحن أحفاد هذه الحضارة العظيمة لم ندرك ذلك إلا عندما جاء نابليون ليحتلنا وقال أنتم أبناء أقدم أمة في الدنيا.
ويضيف الدكتور عبدالله سرور أن قربه من مجيد طوبيا جعله يتأكد أنه يحظى بتقدير شخصي من بعض المترجمين في إيطاليا وفرنسا بالذات. وهنا في مصر أيضًا.

وعندما يدرك الدكتور سرور أننا انصرفنا عن مضيفنا مجيد طوبيا، رغم أننا نتحدث عنه وعن منجزه الإبداعي، ينظر إلى إحدى الصور المعلقة على الجدار أمامه ويسأله عن حكايتها من باب فتح موضوع للكلام فيجيبه مجيد طوبي: "هذه صورة الرئيس السادات وهو يكرمني"، فيعلق سرور: السادات زعيم عظيم، فيومئ مجيد رأسه قائلًا: "ما كانش لازم يتقتل، دول مجرمين".
وعندما نستفسر منه عن صورة أخرى معلقة على الجدار يقول مجيد إنها صورته في مكتب توفيق الحكيم ومعه ماجدة الجندي وكريمة كمال، وبجوارها نلمح صورة زيارته لموقع العمل في بناء السد العالي في أسوان.
وهنا يلتقط الدكتور عبدالله سرور الخيط ليقول: في سنوات الستينات من القرن الماضي كانت الدولة تنظم لنا رحلات لأسوان لنتعرف على ضخامة ما تم إنجازه في المشروع القومي؛ مشروع بناء السد العالي على النيل في أسوان. والغريب أنه على الرغم من كل ما قاله وكتبه الناصريون عن عبدالناصر وعصره إلا أن أحدًا لم يتوقف أمام وجدان المصريين في عهده، وما هو سر الارتباط به، والشعور بأنه واحد من هذا الشعب.
ويضيف سرور: "لما كان بيعدي موكبه كنا احنا اللي بنرتب الشارع مش رجال الأمن، أو الحرس الجمهوري. وكانت عينا عبدالناصر تصافح وجه كل من يقف على الرصيف ليشهد موكبه فتنشأ علاقة عجيبة بينه وبين الشعب كله". 
وإلى أن ينتهي الدكتور سرور من عمل فنجانين من القهوة له ولمجيد، أسأله عن أسرته فيخبرني بأنه ولد بمحافظة المنيا يوم 25 مارس سنة 1938 ووالده إسحق طوبيا كان مديرًا لبنك القطن - يقصد بنك التسليف الزراعي بالمنيا - ويعلق: "كنت أرى الفلاحين وهم رايحين جايين على أبويا يطلبوا القروض وكان يعطيهم، ولم يحدث يومًا أن واحدًا خذله ولم يسدد مديونيته أو سلفته لأنهم كانوا بيحبوه ويحترموه جدًا".
ويصل الدكتور عبدالله سرور بالقهوة ليعلق على ما كان يتابعه من حوار عن بعد، ويقول: "على فكرة.. في ذلك الوقت كان الفلاحون يقترضون على محصول القطن قبل حصاده وكان مدير البنك يعرف جميع المترددين عليه وتربطه بهم صلات طيبة تتيح له أن يؤثر فيهم ويأسرهم بذوقه وحسن تعامله معهم".
ونعود لمجيد ليقول إنه عندما تخرج في الجامعة تم تعينه في وجه بحري مدرسًا للرياضيات بإحدى مدارس المنوفية. ويذكر أن العامين اللذين أمضاهما في العمل في مدارس منوف لا يمكن أن ينساهما، إذ أحبه الأهالي وارتبطوا به بشكل عجيب رغم أنه كان غير مواظب على الحضور لانشغاله بالتأليف، والسينما، فكانوا يودعونه حتى محطة القطار في مركز الباجور كلما غادر منوف.
وعندما نسأله عمن اكتشفه ككاتب يقول: كنت أكتب كهاو إلى أن قرأ أعمالي أحد أصدقائي وكان اسمه شريف الرهوان فقال لي إنها أفضل من كثير مما يملأ صفحات الجرائد بل والمجلات الأدبية، فتولى هو مراسلة جهات النشر في القاهرة نيابة عنه، وكانت الاستجابة رائعة.
وهنا يسأله الدكتور سرور: "في ذلك الوقت التحقت بمعهد السينما.. أليس كذلك؟"
فيجيب مجيد: "دخلت معهد السيناريو، ثم معهد السينما الذي كان معهدًا للدراسات العليا، أي أن طلابه كانوا من خريجي الجامعات"، وهنا يعلق الدكتور سرور: "شفت يا مصطفى.. دراسته للسيناريو هي التي جعلت لكتابته طعمًا خاصًا، وميزته عمن حوله".