عن أحلام الجزائر الجديدة: الدراما والفكاهة

لا تنظر للرئيس.. انظر بمن يحيط به لتفهم ما يحدث أو لا يحدث.
ما زالت النفوس مشدودة والأفق منقبض والغد في حكم مجهول
ثمة وزراء عليك ان تزور مقر الحكومة كي تعرف أن لهم وجوها وعيونا وأسماء
السؤال المحتد والحاد: هل يمكن أن تبنى جزائر جديدة بهؤلاء الذين لم ينقرضوا رغم المحن والويلات

آل الحراك إلى ثرثرات عقيمة وجدالات ما زالت تتصاعد تارة وتخفت تارة أخرى مقيمة في السوشايل ميديا وفي غيرها، وانتهى بعض من يقال أنهم رموزه في السجن، وتوارى البعض خلف الستائر يبكون مصيره وينوحون، وآخرون خلطوا مصيرهم بمصير الترقب يتحينون الفرص والظرف والوقت حتى ما إذا أشير عليهم تحركوا وضجوا، وأحكمت السلطة قبضتها على مفاصل الحراك، ووضعته في كتاب الدستور طبخ على نار التجاذب والتراخي والرفض والقبول، عدلت مزاج مواده كما قالت بعد مشاورات ونقاشات وحوارات وسجالات بين خبراء وأساتذة ومهتمين، ساسة وسادة وعسكر، أحزاب ونخب ومجتمع مدني، وخلص هؤلاء إلى أن كل المطالب العميقة للشعب العميق موجودة وبينة ومكتوبة بالبنط العريض ضمن نقاطه وفواصله وأسطره وكلماته وعباراته وأماله وتطلعاته التي ستبشر بجزائر جديدة ملمعة مبهرة لا شائبة فيها ولا عيوب.

بعد أكثر من عام وبضعة أشهر على تحرك الشارع أو تحريكه سيان الأمر الآن، وبعد الخروج المفاجئ للعسكر من قلعة الصمت الآمن أمام تعاظم الإحتجاجات وتفاقمها وعنادها ضد ترشح الرئيس بوتفليقة للعهدة الخامسة، حيث أخذ قائد العسكر الراحل قايد صالح على عاتقه دور المخلص والمنقذ للوضع والمصير في جولات صرع فيها البعض بالضربة القاضية وبعضهم بالضربة الناعمة، وبعد حرب لا تبقي ولا تذر على الحكام ورجال الأعمال، وبعد جلوس رئيس منتخب اسمه تبون على الكرسي الشائك للحكم والسلطة، ما زالت النفوس مشدودة والأفق منقبض والغد في حكم مجهول مستتر يراوح بين تفاؤل بعيد وتشاؤم يعشش في العيون، بين يأس مكشوف في الوجوه وفرح مقنع يكاد يختفي من النظر.

هذه هو الانطباع الذي يروج ويسري ويسود هنا وهناك.. وضع يقف على شفا حفرة تتماسك بقدرة عجيبة، مشاكل لا حصر لها ولكن لا أحد بمقدروه اقتراح حلول خلاقة أو مبتكرة تصف طرق الخروج، وتنفلت من الخيوط المتشابكة للمتاهة الطويلة والعريضة التي تلتف وتنعقد في رقاب العباد.

حواري الرئيس

أوجد الرئيس لنفسه مستشارين مبلبلين، جيء بهم على عجل لتأثيث مكاتب الرئاسة، من أفاق متباينة متناقضة مرتبطة أكثر بالولاء والصداقة وحسن الجوار أو في أحسن الأحوال مقترحات مبنية على محاصصة بين أطراف فاعلة ومسيطرة، في الدول الرائدة تبقى هذه الوظيفة أخطر وأهم وظيفة تحتاج إلى فحص وتدقيق ورؤية مشحونة بالصرامة في الاختيار وإنتقاء الأفضل والأنجع والأفيد، مستشارون بعقول منتبهة صافية خالية من الضباب والتشويش وقصر النظر، لأن أي قرار أو إقتراح يقدم منهم للرئيس هو قرار مصيري قد يؤدي إلى نتائج مقبولة ومرضية أو قد يؤدي إلى كوارث وقلاقل.

قلل بعض مستشاري الرئيس اليوم من الظهور في التلفزيون كحال مستشاريه والناطق الرسمي للرئاسة محند أوسعيد بلعيد، وسكن بعضهم فيه، في لقطات مقتطعة من تجمع مبرهج للشرح والتوعية بضرورة الإسراع في التكتل ضمن قوافل الهجرة إلى بر التغير المنشود، لعل أبرزهم حاليا نزيه برمضان.. جف ريقه ونشف عرقه وحفيت قدامه قبل أن يصل عتبة القصر.. كان ضيفا محترما بحطة محترمة وشعر دوما ملمع بالبريونوتيل كعادة الكثير من الوجوه الرسمية، ضيف في كل قناة وخبير في كل موضوع، معارض وموال ومصطف وغاضب وناقم ومهموم بحال البلد وثقل مشاكلها. أجتهد وكولس كي يحظى بمنصب سام في الدولة وزيرا للثقافة مثلا لكن صنارة الحظ لم تلتقطه، وظل يكافح الويل ويجذف في خضم الأمواج العاتية التي تضرب سواحل المناصب.. وفي لقطة سريالية أنتبه إليه محيط الرئيس بعدما دب اليأس في قلوبهم وعجزوا عن إيجاد شاب يمتلك مواصفات أولئك الذين يستقلون قوارب الموت ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة بحثا عن نجاة مستحيلة من ضنك العيش على أرض سحبت خيراتها من تحت أرجلهم وتحت أنظارهم، سحبوه من عرين البلاتوهات والكواليس ورنين الهواتف والجري ليل نهار، ومنحوه بعد أخذ الإذن من الرئيس تفويضا أخضرا - كما يحب المحللين الإشارة إلى الأمر- برسالة واضحة المعالم ألا وهي لملمة بقايا جمعيات مدنية نائمة نومة أهل الكهف الطويل، قدر جسامة المهمة، فبدأ يصول ويجول في الفيافي والربوع والولايات، وتقام له التجمعات في قاعات مكيفة، وبهمة شاب في العشرينات يخطب الود ويحي بجد وجهد العظام الرميمة لهذه التنظيمات، ويحاول ترميم الشقوق وملء الفراغات فيها بعدما أحدودبت وشاخت ووهنت، فالمواعيد الكبرى المقبلة لا تحتمل التأخير أو التعطيل، فخطب وخطوب الجزائر جليلة، وهي مهددة في كيانها، والمتربصين بها كثر بلا وجوه، والمتآمرين من أشباح وأعداء يحسدوننا على العيش الكريم وعلى ثمرة الديمقراطية التي ننعم بأكلها على مهل.

تكفل الإعلام الرسمي والخاص بتغطية الخرجات التي قام بها المستشار نزيه برمضان المكلف بالحركة الجمعوية والجالية الوطنية بالخارج، في داخل الوطن - الخارج مؤجل إلى حين بسبب الكورونا، وبعض الألسن تقول أنه لا يحسن حتى التحدث بلغة أجنبية وتسألوا بأي لغة سيخاطب الجمع الغفير هناك -، قلت تكفلوا بتغطية الخرجات المباركة بغطاء رسمي عال المستوى يحضره الولاة وقادة الأجهزة الأمنية والمسؤولين المحليين وغيرهم، أستمع بصمت للوفود القادمة إليه، وشوهد وهو يسجل بانفعال الملاحظات والنقاط والشكاوي والأسئلة، وتكلم كعادته ولكن كما هو معهود ومعروف عنه بلغة فضفاضة مغلولة بمعان شعبوية حزبية نضالية من عهود بائدة، تكلم أمام حضور مبعثر في القاعات يقال أنهم ممثلي تنظيمات المجتمع المدني والطلابي، تلفظ بكلام تنقصه الحماسة والقوة والثورة والتأثير، لا بناء فيه ولا إستراتجية ولا عمق ولا تحليل مبني على معطيات علمية تمنح له من طرف خبراء أو متابعين أو مراكز إستشرافية لمعرفة كيف ولماذا وأين الخلل وما هي الحلول.. وكان من المفترض في مثل هذه المهمات أن تتأسس على قواعد علمية متماسكة وأن تعطى لشخصيات متمرسة في التخطيط وبعد النظر والتجربة والفعالية والنجاعة وأهم من كل هذا أن تتمتع بخيال واسع يذهب إلى المستقبل، لا أن تمنح هكذا بنزوة هوى أو بجرة قلم أو عن طريق مفاهمات بين قوى تتقاسم القرار والحكم، أو لأن فلان دائم الحضور في الإعلام وهو حال نزيه برمضان.

حالة أخرى لمثل هذه التعينات هو الجنرال عبدالعزيز مجاهد.. وهو أيضا للصدفة بعد أن تقاعد أصبح نجما لامعا في التلفزيون، قيل أن الرئيس كلفه بالملف الأمني، وعندما نقول الملف الأمني ستدور الأعين في المحاجر لأنك اقتربت من مخالب الأسد.. العسكر.

لا يعرف مدى النفوذ أو القبول الذي يحظى به الجنرال مجاهد لدى الدائرة الضيقة للعسكر.. كلمته هل هي مسموعة أو مرفوضة؟ مع من يتحدث هناك؟ ما هي علاقته مع الصقور والنسور والجيش بأكمله. ما يقال أنه كان أعلى رتبة من شنقريحة في السلم العسكري قبل أن يتقاعد، وأنه على علاقة وطيدة بالرجل وهو ربما ما سمح له بتقلد هذا المنصب بعد مشاورات ومفاوضات عسيرة.

تسربت الكثير من المعلومات عن مهمته ومدى سيطرته على الملف الأمني الغامض والمربك والسري، تقول كلها أنه لعب دور المرسال بين الرئاسة والعسكر في تخفيف بعض التوترات التي كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى بين المؤسستين، وقيل أيضا أنه كان من دعاة الإفراج عن توفيق وطرطاق وضرورة إعادة النظر في قضية الجنرال نزار.. لتبقى هذه مجرد تخمينات وتكهنات ولوحات ترسم على الجدران الصامتة لوزارة الدفاع والرئاسة.

أبعد الجنرال مجاهد من الرئاسة وعين مدير مديرًا عامًا لمعهد الدراسات الإستراتيجية الشاملة، لا أحد يعرف ما الذي وسوس في صدور الطرفين (العسكر والرئاسة) ليتم على إثرها الإستغناء عن خدمات الرجل، غير أن معلومات شحيحة تشير إلى أنه كان على اتصال بقواعد المنافس الغريم في الرئاسيات السابقة للرئيس تبون السيد علي بن فليس وكان يستقبلهم في مكتبه حتى أنه يكون وراء دفع الوجه البارز أحمد عظيمي للاستقالة من حزب طلائع الحريات على ضوء وعد بمنصب في الرئاسة.

في كل الحالات سيقول لك كل من يعرف خفايا النظام من الداخل أن هذا هو منطق الثواب والعقاب الذي تلجأ إليه السلطة كلما أشتد الجذب والشد بين الطرفين وكي لا تتعقد الأمور يتم التضحية بأحدهم على مذبح المعبد.

حيرة على باب حكومة

في المقابل عايش الجزائريون طوال هذه الأشهر ونظروا تحت طائلة وباء كورونا القاتل إلى حكومة غريبة وعجيبة وهلامية، بدت باهتة بدون ملامح سوى ما يتم رصده من صورهم المتحركة حين تتبعهم كاميرات التلفزيونات، تحصرهم في بعض لقطات عــُــدت عند الكثيرين سقطات وزلات كان يجب أن تقص صورهم فورا لفداحة تأثير ما قاموا به من خطوات غير مدروسة ومأهولة بالأخطاء.. حكومة ببعض وزراء زاخرين بالحضور وآخرين في حكم المجهول لدى الرأي العام، لا يسأل عنهم أحد ولا يــُعرف هل هم موجودين فعلا أم لا.. وكي تتأكد من وجودهم يجب أن تزور موقع الرئاسة والحكومة كي تعرف أن لهم أسماء ووجوه وعيون.. وقد أرغم تفشي وباء كورونا الحكومة وطاقمها أن تتدارس الملفات الكبرى في اجتماعات افتراضية سواء مع الرئيس أو مع رئيس الحكومة عبر تقنية التواصل عن بعد.. وهذا يعني حضورا من مكاتبهم الفخمة افتراضيا بالصورة والصوت والنقر، ولكنه افتراضي على أرض واقع عامر بمشاكل لا حصر لها وعقبات تقف برأسها تنطح من يقترب منها.

عبر أكثر من عام أظهرت الحكومة عجزا نوعيا وعضويا في حلحلة الكثير من الملفات.. ولم تقطع أشواطا مهمة في الدفع بالمجتمع نحو الإيمان بعهد جديد بعد سطوة الفساد طوال عشرين سنة.. تراوحت ممارسات بعض الوزراء بين الاستعراض المبهرج والعشوائي كما يفعل وزير التجارة، أو كالتخبط في تحديد أصل العطب والندرة كحال وزير البريد، أو في التناقض وعدم الانسجام في الفهم بين وزيري الطاقة والتعليم، أو رمي الكرة بين هذا وذاك كما هو حاصل بين وزير الصحة والتربية فيما يخص الدخول المدرسي، وتردد وخوف وخمول بعضهم كوزيرة الثقافة والفنون، أو محاولات محتشمة يقوم بها البعض لتكسير الجمود ببطء وحذر شديد كما تفعل الوزيرة الجديدة المكلفة برياضة النخبة.. أو سوء التقدير والوقوع في مطب ردود الفعل والتبرير كما هو لدى وزير الاتصال.. دون الحديث عن غياب محير ومربك لقطاعات وزارية أخرى وانمحاءها تماما من خريطة الدولة رغم أنها موجودة في دفترها.

دراما بنكهة الفكاهة

جعل الرئيس تبون من مشروع بناء جزائر جديدة قلادة مباركة ومعطرة في رقبة حكمه المقبلة، حتى أنه أوضح لونها وشكلها ومعدنها وأصلها في كل محفل ولقاء، جزائر جديدة سيكرسها دستور بنسخة معدلة ومنقحة ومزيدة، طفرة ستنقلنا من حال إلى حال، من الضيق إلى الفسحة، من الجحيم إلى النعيم، من زمن فاسد إلى زمن نظيف، من مجتمع معتل إلى مجتمع معافى، من وضع متردي إلى وضع ناهض، من مناطق ظل ظلت لسنوات على هامش الحياة إلى مناطق تشع بالنور والرفاه، من وجوه مكفهرة إلى وجه ضاحكة مستبشرة، من بحر عدو هائج يلفظ أجسام هاربة إلى بحر صديق يحضن بيديه الناعمتين الأجساد السابحة والمستحمة، ستجعلنا هذه الجزائر الجديدة نحلم ونستفيق على العسل والخبز الطازج والحليب المتوفر واللحم الشهي، كل شيء سيكون هنا في قلب الجزائر الجديدة، سكن لائق لكل نفس ضائعة ولوامة، عمل مريح تكفي أجرته العيال والأحفاد، سيارة خاصة تتنزه في براري العــُطـل، ولما تنقشع غيمة الكوفيد سيسافر كل فرد إلى العالم مطمئنا معززا مكرما لا تراوده كوابيس الهجرة واللاعودة فجزائره الجديدة الغالية أولى بمخه وحياته وأمواله.

غير أن حلم هذه الجزائر الجديدة معكر إلى حين.. فعرابي الفترة السابقة استبقوا الكل قبل أن تظهر ملامحها الشيقة وعيونها الزرقاء، تعلقوا بأستارها وتمسحوا بها وهللوا لها في مواقف كوميدية يندر أن تعثر عليها في أية مسرحية، الكل يتسابق ويشيد بها ومنجذب إليها وعاشق لها حتى أن منتهزي المواعيد وفطرياتها بدأوا في التراص والتجهمر والتسبيح أمام باب القصر كل يقدم ولاءه المطلق الممل والسمج والكاريكاتوري، يلوحون ببركاتها حتى ولو كانوا غير مقتنعين بما هم مقبلون عليه، المهم المهم هو عدم تفويت الفرص لعل الحظ يعثر عليهم ويضعهم في مرمى السلطة والنظام، هذا عدا عن فعاليات وتنظيمات وأحزاب أخرى طفت وأطلت بدون حشمة بعد غفوة وردة ونبذ وغياب تام، وهي اليوم تقيم الندوات تلو الندوات والنشاطات والجلسات واللقاءات فرحين بمهماتهم الموكلة لهم من لدن أي أحد ولا أحد.

ويظل السؤال المحتد والحاد يرن على حوافي القلادة المعلقة التي وضعها الرئيس تبون في رقبة حكمه، هل يمكن أن تبنى جزائر جديدة بهؤلاء الذين لم ينقرضوا رغم المحن والويلات التي ضربت البلاد، ظلوا على أحوالهم ممتثلين حتى في شكل هندامهم وأسلوب خطابهم المتكلس المبقع الذي لا يقنع ولا يغني من جوع أو عطش.. هل الرئيس تبون فعلا بحاجة إلى موالين يمثلهم بن بعيش والطيب الهواري وخالفة مبارك كي لا نسمي غير هؤلاء كنماذج ابتليت بهم الجزائر في مقتل طوال سنوات وعهود وهم أنفسهم من يتولون دفة الدعاية والإشهار لما ستكون عليه الجزائر الجديدة المبشرة بدستور جديد.. وهل يمكن أن تتحقق مع الأصوات المعارضة والتي احتلت شاشات عقولنا وبصرنا ومنامنا وصحونا وسيطرت علينا من أيام الكهف وهي نفسها التي تتقدم خريطة الرفض لويزة حنون ومقري جاب الله وغيرهم من غثاء كثير.

لقد ملت الجزائر القديمة من هؤلاء جميعا وليس في مقدور أيا كان أن يبني لها عهدا جديدا بوجوه زحفت التجاعيد عليها، وتشققت المرايا وتهشمت وهم ينظرون إليها.. جزائر مبصرة لا يرشدها عميان، ولا يقود دفة سفينتها التي تتلاطم في بحار عالية طواقم لا تحسن العوم ولا السباحة.. الجزائر تحتاج إلى أحرار وليس لعبيد، جزائر تحتاج إلى قائد وليس السيد الرئيس، تحتاج إلى عسكر وليس إلى أجنحة عسكرية تتجاذب وتتنافر وتتصارع بصمت، جزائر تحتاج إلى أرض وليس إلى وطن على مقاس أيا كان.

تلك هي أحلام الجزائر الجديدة وهي ليست بالبعيدة.