قراءة في الفكر النقدي للدكتور أحمد يوسف علي

القارئ المتخصص سيجد في الفكر النقدي الذي قدمه أحمد يوسف علي مادة خصبة لدرس الأدب وتحولات النظرية.
الناقد يتصدى إلى جوانب نظرية الأدب في "مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين"
علي يتجه صوب الأندلس ليختار منها صوتا شعريا مميزا، هو ابن خفاجة

تصوغُ نظريات الفن – والأدب خاصة – علاقةَ الإنسان بالواقع؛ إذ إنّها تُلبي احتياجات الواقع المعيش، وما يطرحُه من تساؤلاتٍ متجددةٍ حول ما أصابه من تغييرات سواءً أكانت جذرية أم طارئة. وتُشيّد كلُّ نظرية بناءها عبر مسارين؛ الأول: يرتبط بالدلالة التاريخية المصاحبة لظهور النظرية، فيرصد التطور الاجتماعي وما يصاحبه من تغيرات معرفية استدعت طرح أسئلة جديدة حول الأدب ماهية ووظيفة وأداة؛ أي إن هذا المسار شديد الصلة بالسياقات الفلسفية والاجتماعية التي طرحتْ الأسئلة وقدمتْ البدائل. أمّا المسار الآخر فيشخص ببصره إلى ما هو إنساني عام فيتعلق به، وتتجلى قيمتُه الحقة في هذا التعلق.
تُعاد صياغةُ المفاهيم الكبرى التي تُشكَّلُ جوهر النظرية وكل ما يتعلق بها، وفقا لهذين المسارين، فتظهر أسئلةٌ من قبيل: ما الأدب؟ ما مدى توافقه أو مخالفته لغيره من الفنون؟ ما المهام التي ينهض بها؟ كيف يتشكل جماليًا؟ ولأن صياغة هذه المفاهيم ترنو إلى الوفاء بمتطلبات الواقع، فهي بالضرورة تنطلق من الحاضر وليس من الماضي القريب أو البعيد، لكنها في الوقت ذاته لا تغفل هذا الماضي بل تُحدد موقفها منه بناءً على شرائط الحاضر، فتُناقِش أسئلة نحو: ما التراث؟ وعلى أي مسافة نقف منه؟ 
تتجلّى إشكالاتٌ، وتُراجع مفاهيم، وفقًا لزاوية النظر إلى هذين المسارين – التاريخي الخاص والإنساني العام – والوعي بهما. فالارتباط بما هو إنساني، قد يكشف عن مشابهة بأطرٍ معرفية أخرى، بل هو بالضرورة يكشف عن ذلك، فهل هذه المشابهة تُخوّلُ لنا القول بالتطابق، من ثمّ الادّعاء بالسبق؟ أو الاكتفاء بالموروث؟ ثمّ إذا وجدنا فيها ما يُغري بالنقل والإفادة، فهل يحق لنا ذلك دون وعيٍ بما تحمله من دلالة تاريخية خاصة؟ أم أن هناك قوانين ضابطة لنقل الأفكار وهجرة النصوص؟ 

Literary criticism
د. أحمد يوسف علي

وأحْسَبُ أنّ المشروعَ النقديَّ للأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي أستاذ النقد والبلاغة بجامعة الزقازيق كان عمادُه الوعيَ بما قدمنا؛ فقد صاغ مشروعَه – أمدّ الله في عمره - من منتصف السبعينيات إلى يومنا هذا على المستويين التجريدي والتفسيري من مواقع عدّة – متشابكة ومتجادلة في آن - في مساحات مكانية وزمانية ممتدة، فتجلّى عملُه من موقع الراصد للتحولات الفكرية المصاحبة لظهور النظريات قديمها وحديثها. 
ومن موقع المراجع للمشاريع الكبرى في تراثنا العربي، ومن موقع المراقب للمشهد الثقافي المعاصر بكل ما يحويه من جدل ومواقف متباينة، ومن موقع الموجّه والمقوّم إلى كل ما يضمن سلامة النص المقروء أو المنقود أو المهاجر أو الحامل للأفكار، وكل ما يتعلق بهذا النص من تساؤلات ومراجعات؛ تجلت هذه المواقع في كتب رصينة جادة، منها ما هو عمدة في بابه ارتيادًا وطرحًا، وفي أبحاث شتى لم تجمع بعد بين دفتي كتاب، وفي غير ذلك من أنشطة. وقد لا يتسع المقام لتفصيل كل هذا المشروع، ويكفينا منه – هنا – ما نبرهن على صحة ما افترضنا؛ لذلك نتوقف عند محطات نقدية مختلفة.  
بدا ذلك الوعي المبكر من الأستاذ بنظرية الأدب في مناقشته لمشروع تشييد "نظرية الشعر عند ابن طباطبا" (1978) [نشرت الطبعة الثانية في دار الوراق بالأردن 2015]، وهو المشروع الذي عاصرَ حركة تحولات شعرية كبرى في المجتمع تمثلت في محاولات بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وابن الرومي، مع ما بينهم من تفاوت، وأن من شأن هذه التحولات أن تزعزع ثوابت راسخة، وهو ما يفسر مثلا بعد ذلك ظهور ما يسمى بالحركة النقدية حول أبي تمام في القرن الرابع، والإحساس بالتغيير من شأنه أن يعيد قراءة المنتج الشعري. ويبين الدكتور أحمد يوسف أن ابن طباطبا كان عنده إحساسٌ بالتغيير الذي قدمته الحركات الشعرية المعاصرة له أو قريبة العهد به، كما أدرك رفض المجتمع لما تقدمه هذه الحركات، لكنه شارك قيم المجتمع الرافض في مفارقة حقيقية. وأدت هذه المفارقة إلى وقوع ابن طباطبا في غير قليل من التناقض في رصده للظاهرة الشعرية ماهية ووظيفة وأداة، إذ انطلق من منظور جزئي ثابت – كما يرى أستاذنا – يتمثل في وعيه الجزئي بالتغير في بنية الشعر على مستوى التنظير لكنه في الوقت ذاته لم يدرك تغير القيم والمعايير الذي أصاب المجتمع من حوله.
ثمّ تصدى إلى جانب آخر من جوانب نظرية الأدب في دراسته الفذّة "مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين من بشار بن برد إلى أبي العلاء" 1984 [نشرت الطبعة الثانية في دار الوفاء بالإسكندرية 2014]، لكن هذه الدراسة مغايرةٌ لما قبلها من جهتين: طبيعة المادة المدروسة، وطريقة التناول. فالمادة هنا مادةٌ خَبِيْئَةٌ شعرًا ونثرًا، تحتاج إلى من يكشف عنها النقاب في بطون الدواوين والمجموعات الشعرية والمصادر الأدبية والتاريخية ذات الصلة، وللقارئ أن يتخيل جمع مادة بهذا الشكل في هذه المساحة الزمانية الطويلة، في وقت لم يتمتع أصحابه برفاهية التقنية التي نمتلكها الآن. 

عدم الوعي بمدركات الواقع يؤدي إلى محاولة إجهاض كل محاولة جادة وإن بدت فردية

أقول إن طبيعة هذه المادة المدروسة تجعلها مغايرة لمادة ابن طباطبا، فقد رصد هؤلاء الشعراء مفاهيمهم في بيئات متعددة، وهي ذات طابع فردي، والطابع الفردي قد يعكس تناقضا للمفهوم الواحد عند الشاعر الواحد، وقد تلتقي بعض الذوات لتشكل ملمحا، لكن المؤكد أن ذواتا أخرى قد تأتلف لتشكل مفهوما مغايرا، فكيف السبيل إلى قراءة تلمّ شتات هذه المفاهيم؟ 
يتعلق الأمر بطريقة التناول، فالمادة المجموعة لا تُمثل تصورًا نظريًا متسقًا أو شبه متسق بل هي مفاهيم، والبون شاسع بين المفهوم والنظرية، فالنظرية تتطلع إلى ما يتجاوز الزمان (الارتباط بالإنساني العام)، والمفهوم أنتجته قرائح شعراء حالمة ومتطلعة إلى واقع مفترض يتجاوز الواقع الكائن الذي دفعهم أن يصفوا زمنهم بأوصاف رافضة تكشف عن موقف سلبي تجاهه فهو "زمن القرود / دهرنا هذا حمار ..."، لكنهم بهذا التطلع يرتبطون أشد الارتباط بالزمن والتاريخ بما يخلعون عليه من صفات (الارتباط بما هو تاريخي نسبي)؛ لذلك لم يجد الكاتب ما يمنع من مواجهة هذه المفاهيم وإن تعددت فــــــ "هي نتاج أبناء حضارة واحدة ذات ظروف تاريخية واجتماعية عامة".
وهو ما يعني أن دراسة تصورات هذه الذوات الحالمة تقتضي تحديد الوظائف كما تتصورها هذه الذوات على المستويين الفردي والجمعي ثمّ تحديد طبيعة الشعر بناء على هذه الوظائف، وهو ما رصده الأستاذ في مبحثين عن الشعر والواقع، والشعر والعلم، ثم رصد إجراءات التشكيل الجمالي المتمثلة في أداته التي أبرزتها الدراسة في أربعة مباحث شملت المعجم الشعري والإيقاع والصورة والبنية.
وتابع الأستاذ تحولات النظرية في عدد من كتبه التالية مثل: نقد الشاعر في مدرسة الديوان، ووميض الفكر. ولكننا نتوقف عند كتابه الأخير الذي صدر عن دار الوفاء بالإسكندرية 2018، وهو كتاب "مدارات القراءة والكتابة عن النص والشعر والتاريخ"؛ لأنه يتصل أشد الاتصال بما سبق وقدمناه من جهة التفكير النقدي للأستاذ وما يقتضيه هذا التفكير من ضوابط لقراءة النص وتفسيره، لكنه في الوقت ذاته مغاير لما سبق من جهة المادة المدروسة وما تقتضيه كل مادة من تناول يحافظ على ما هو تاريخي خاص فيها، وما يترتب على ذلك من إجراءات كاشفة لهوية هذا النص إن سلبا وإن إيجابا، وإيجابية هذا النص المدروس هي التي تحدد موقعه في التاريخ النقدي العام، وتربطه بما هو إنساني. 

Literary criticism
أسئلة جديدة حول الأدب 

وهو ما يعني أن الكاتب الدكتور أحمد يوسف علي  لم يعمم ما سبق من نتائج مهمة رصدها في كتابيه المذكورين عن (نظرية الشعر عند ابن طباطبا، ومفهوم الشعر عند الشعراء) والدراسات اللاحقة على مجموع هذا الكتاب الذي يضم عددا من الدراسات المنجزة في فترات زمانية متباعدة بعض الشيء، والموزعة بين محوري التجريد والتفسير. وهو ما نحاول أن نتبينه، وإن لم نلتزم بترتيب الدراسات في الكتاب.
يتجه الأستاذ صوب الأندلس ليختار منها صوتا شعريا مميزا، هو ابن خفاجة، وهو شاعر رئيس في صناعته، وفي الوقت ذاته له نظرات نقدية تجلت في المقدمة التي صدر بها ديوانه، وفي الديوان نفسه الذي أخضعه لمعيار الانتقاء، فأسقط منه قصائد، وأبقى منه ما يرضى. هو شاعر ناقد صاغ ما صاغه في بناء ثقافي تقدم فيه كل ما هو ذو صبغة دينية فقهية في دولة المرابطين/ الطابع المحافظ، وإن شاركه في الحضور طوابع ثقافية أخرى أكثر تحررا، وتأكيد الأستاذ صفة العالم لابن خفاجة كما اتضح من صنيعه للديوان وأقوال معاصريه الذين قدموا صورة العالم على الشاعر تبرز الطابع الفردي المميز الذي يستطيع أن يتجادل مع الطوابع الثقافية المتعددة في عصره.
أما دراستا "نحو مفاهيم مغايرة لنظرية الأدب والاتصال الأدبي" فتكشفان عن الوعي بالنسبية التي تحيط بكل نظرية. فلم تعد الدلالة التاريخية المصاحبة للمنتج الأدبي في العهد القديم هي ذاتها المصاحبة لإنتاج أدب هذا الزمان، فقد اتسع الإطار الحضاري؛ ليصبح إطارا كونيا في زمن التكنولوجيا. وأصبح على أصحاب الطوابع الفردية الحقة أن تتجادل مع هذا الإطار.
يحتاج هذا المسعى الكاشف عن جدل الطابع الفردي بالطوابع الكونية إلى من يُدرك موقع أطراف العملية الاتصالية، وما يفرضه الواقع من متطلبات. وعدم الوعي بمدركات هذا الواقع تؤدي إلى محاولة إجهاض كل محاولة جادة وإن بدت فردية على نحو ما صوره الأستاذ في دراسته المعنونة بـــــ "أبوتمام وكيف حاصره النقاد". ويرد الأستاذ هذا الأمر إلى الركون إلى كل ما هو سهل مستساغ دون الجهد في اقتناص "اللؤلؤ المتناثر في الأصداف".
ولن يتاح للناقد الحق النهوض بكل ما يتطلب منه دون مراجعة المفاهيم المتجذرة، ووضعها في جدل حقيقي مع الواقع المعيش، وهو ما يلاحظ في رصد أستاذنا الدكتور أحمد يوسف لـدراساته التي تشمل باقي فصول الكتاب "الوزن والإيقاع والبدايات الأولى". و"مصطلح النص في النقد الأدبي"، و"الوصل والفصل بين الأدب والتاريخ" و"تأثير المكان في تفسير مقولات النقد". 
وهو ما يعني أن القارئ المتخصص سيجد في الفكر النقدي الذي قدمه الدكتور أحمد يوسف علي مادة خصبة لدرس الأدب وتحولات النظرية.