قراءة في المشهد والتاريخ

من الضروري كسر الحلقة المقفلة التي تأتي بحكم العسكر ثم القوميين وصولا إلى الأخوان والعودة ثانية إلى العسكر.

بعد استقلال وتأسيس الاوطان في المنطقة العربية في العشرينات والثلاثينات والأربعينات وحتى الخمسينات والستينات وبعد معارك الاستقلال بأشكالها المختلفة وكذلك ما افرزته نتائج الحرب العالمية الثانية من إتفاقيات وتقسيم نفوذ، كان للتيارات المدنية بمختلف أشكالها النفوذ الاوسع في تلك الاوطان فكانت تونس والعراق ومصر وليبيا والسودان ولبنان أمثلة جيدة لما يجب ان تكون عليه بدايات تأسيس نهضة المجتمعات والدولة من تنمية وحرية مدنية وتعليم وإقتصاد وحقوق إنسان وعلاقات دولية وأمن وكل نواحي الحياة المجتمعية والثقافية من ادب ومسرح وفن وكتابة وتنوير وحريات أكتسبت فيها حتى المرأة مكانتها من حيث مشاركتها المجتمعية والثقافية والفنية والادبية فظهرت أسماء كثيرة لمعت في كل المجالات لا زلنا نطرب ونقرأ ونعود لأعمالها وكتبها حتى اليوم بها الأصالة والمُعاصرة وهي اغنى من امثلتها اليوم.

بعد قرار تقسيم فلسطين 1948، ظهرت الحمية القومية العاطفية الهوجاء فكان للجيوش الوليدة فرصة للانقضاض على تلك النهضة الوليدة تحت شعارات كثيرة كتحرير فلسطين والوحدة والاشتراكية وغيرها. فحصل اول إنقلاب عسكري في سوريا (العقيد حسني الزعيم سنة 1949)، تلاه فيض من الانقلابات في مصر والعراق والسودان واليمن وليبيا، صاحبتها تأسيس أحزاب قومجية ويسارية تبنت تلك الشعارات، لم تُحقق شيئا من تلك الشعارات. كل ما حقّقته هو القضاء على الكثير من الانجازات الثقافية والاقتصادية والتعليمية التي كان سابقة لها بل جلبت ايضاً الخراب للأفكار والعقول والمنجزات الاقتصادية. لم تبنِ منجزات جديدة بل استولت على كل الانجازات قبلها وأمّمتها واعطتها للطبقة العمالية فقيرة الحال والثقافة التي توّهمت بأنها قد ملكت ما تستحق فكانت اليد التي ضربت بها تلك الحركات الانقلابية كل المؤسسات المدنية الاخرى. نظرا لسوء الثقافة، لم تشعر تلك الطبقات وهي تمتلك ما أنجزها غيرهم، انها بهذا قد خسرت المُعين الاقتصادي الاكبر الذي لو بقى وتطور تدريجيا وثقافيا وتشريعيا وعلميًا لطالت إنجازاته الاقتصادية والمدنية الجميع فيما بعد.

والحقيقة ان تلك الحركات الانقلابية بهذا التصرّف بدت وكأنها تستدين من جهة ما لُترضي نفسها وأخرين. لم تفكّر انه سيأتي يوم تقف فيه عاجزة عن تسديد تلك الديون وعندها تقع في مأزق إقتصادي وإجتماعي وسياسي وثقافي ودولي كبير. وهذا ما حصل. فتم الهروب للإمام ودخلت في معارك وهمية لم تكسب فيها معركة واحدة فلجأت للغة العربية لتسمي الاشياء بغير مسمياتها فكانت مثلا الهزيمة نكسة وكان شكسبير هو الشيخ الزبير والجنيه هو الدينار والثقافة هي تمجيد الاستبداد. وامتلأ قاموس المفردات والاعلام الموجّه بكلمات مثل الامبريالية، الاستعمار والعملاء والخونة، قوى الشعب العاملة، الاشتراكية،الجواسيس،عصر الجماهير، المؤامرة..الخ.

تزامنت بدايات تلك النهضة المدنية الاولى مع سقوط دولة الخلافة العثمانية التي ورثت الخلافات الاسلامية المتعاقبة فكان ظهور دعوات للعودة لتلك الخلافة أيضا ومنها ظهور جماعة الاخوان المسلمين والتي ظهرت من عباءتها معظم الحركات المتطرفة فيما بعد والتي ظلت تعمل وتُنظّم نفسها سرًا وأحيانًا علنا. وبعد فشل تلك الحركات الانقلابية القومجية وبداية عودة الوعي (السلبي) بسبب فشل وإنتهاء الايديولوجية القومجية حلّت جماعات الاسلام السياسي مكانها بعد تغييرات "الربيع العربي" لأسباب كثيرة من أهمها دعم العالم الغربي لتلك الجماعات على أساس انها هي الحركة المعتدلة وفشل الحركات المدنية على تقديم مشروع يجذب عامة الناس والذين تغلب عليهم حالة التدّين وكذلك أخذا برأي كثير من مراكز الابحاث الغربية ورموزها بأن هذه المناطق لا تُحكم إلا من خلال أيديولوجية دينية ولتكن مُعتدلة لعله قد يحدث أمران: إما الاستقرار تحت حكم تلك الحركات، او الوعي بمخاطر هذا النوع من الحكم كما حدث مع الحركات القومجية التي ايدتها الشعوب سابقًا ثم حادت وثارت عليها بعد فترة "ثورات الربيع" وما بعدها حيث ان الوعي السياسي والمدني لا يحدث بدون المرور على هذه المرحلتين وليس القفز عليهما.

نحن الان في مرحلة الوعي بخطورة سياسات ونهج وأطماع وجهل مشاريع الاسلام السياسي بمختلف أشكاله (العراق، سوريا، ليبيا، مصر، اليمن، تونس، لبنان). ولكن هل هذا سيقودنا لحتمية العودة لأسس مشاريع النهضة الحقيقية قبل تلك الانقلابات وكذلك مشاريع الاسلام السياسي، والتي اساسها الحكم الرشيد والحكيم والاقتصاد الصحيح وحقوق المواطنة والتمدّن والبُعد عن المشاريع العابرة للأوطان، لننقذ أوطاننا من الضياع، وخاصة اننا نعلم اليوم ان ثقافة الإنقلابات العسكرية لم تعد صالحة، فهي ايضاً مرحلة وانتهت وتم إستبدالها بثقافة ان الجيوش كمؤسّسة وطنية حرفية، لا بد من وجودها حماية للوطن والامن واوقات الازمات وحامية وحارسة للتحوّل الديموقراطي والمدني.. والأهم انها الوحيدة القادرة لحماية فكرة الوطن لا الزمن؟