مشروع الكرامة الليبي
بعد ان قفزت التيارات المتطرّفة والإرهابية على انتفاضات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، كاستكمال لمشروع التمكين السابق (تمكين الإخوان المُسلمين)، والذي رعته ونصحت به بعض مراكز القرار الاميركي كبديل عن التيارات المتطرفة كما قدّم الإخوان انفسهم، وما حصل بعد غزو افغانستان وتبنّته الإدارات الاميركية المتعاقبة ما قبل إدارة ترامب وكذلك بعض عُتاة الحزب الديموقراطي الاميركي كمشروع للشرق الاوسط الجديد، والذي ادّى إلى تأسيس قناة الجزيرة وان تكون قطر هي الاداة الرئيسية للتنفيذ وإعتبار تركيا هي الانموذج (راجع مقالي "ابن خلدون الاميركي")، كان لابد لشعوب هذه الدول والمجتمعات بعد ان اكتشفت هذه الحقيقة وان مشاريع الإسلام السياسي لم تكن إلا مشروعاً قديماً للشرق الاوسط الجديد والذي لا يتوافق مع طموحات وامال واحلام تلك الشعوب والمجتمعات واحلام إنتفاضاتها، وكان لابد لها أيضا من الولوج في مرحلة ثانية أو إنتفاضات اخرى للتخلّص من تلك التيارات ومشاريعها. هذه المرحلة تطلّبت وجود جيوش وطنية حرفية وقوى امنية، خاصة بعد ان ظهرت مخالب جماعات الاسلام السياسي الحقيقية في فترة زمنية قصيرة من خلال ممارساتها وفي الاستعانة بالتيارات المتطرّفة والفساد الاقتصادي والنهب الممنهج كما عبّر عنه غسان سلامة فيما يحدث في ليبيا وحتى الان.
مصر كان بها مؤسّسة جيش عريقة وقوية ومتماسكة لم يدمرها حسني مبارك قبل ان يتنحى، بل سلّم لها سلطة البلاد كمرحلة إنتقالية، ثم استعان بها الشعب المصري في إنتفاضته الثانية في يونيو 2013. تونس خفّف عنها قليلاً ذلك المجتمع المدني الذي أسّسه بورقيبة ولا يزل وبرفقة جيشها ومؤسسات امنها الوطنية يدافعون عن تلك القيم بقدر المُستطاع ولكن تمكنت بعض تلك القوى المتأسلمة وخاصة النهضة من التسلّل إلى كثير من مؤسسات الدولة خلال الفترة الإنتقالية، الامر الذي سيستحق الكثير من النضال للعودة للقيم المدنية والوطنية للدولة التونسية. سوريا اوصلها قفز هؤلاء المتأسلمين بتأييد من إيران ومن تركيا القريبة منها إلى ضرب الانتفاضة في المنتصف، فانكسرت عصا الإنتفاضة فأصبحت شبه لا دولة ولا ثورة وبحكم خلفيات تاريخية وعسكرية معقدّة. ليبيا دمّر وفكّك نظامها السابق مؤسسة الجيش ذات العقيدة الوطنية التاريخية واحلّ محلها خلال عقود، هجين غريب من الكتائب تحمل عقيدة حماية رأس النظام ولا تحمل العقيدة الوطنية، وكذلك مؤسسات الدولة التي كانت تأتمر بتعليمات متناقضة من نظام مريض فصارت أكثر مرضا، فكان من السهل بعد انتفاضة فبراير 2011 وإنتصارها، القفز على الانتفاضة بالكامل وكذلك التغلغل داخل مؤسسات الدولة وتم التمكين للاسلاميين وحلفاؤهم بالكامل على كل مقدرات الدولة خلال المرحلة الانتقالية التي كانوا هم مُصمّميها.
بعد عمليات الاغتيال والاختطاف وغيرها من الاعمال الارهابية في عموم البلاد من خلال الدروع ومجالس الشورى واللجان الامنية، الإرهابية التي شكلتها التيارات الاسلاموية بديلاً عن مؤسّسة جيش وقوى امنية موحدّة وحرفية في البلاد، والتي طالت رموز القوى المدنية وكذلك ضبّاط وقوى امن وطنية كانت قد انشقّت عن النظام السابق خلال الانتفاضة وانضمّوا لها وفي عزّها، تنادت البقية الناجية لتأسيس وتشكيل نواة جيش وطني ليبي تحت مشروع "الكرامة" لإنقاذ البلاد وتصحيح المسار وفي ظروف صعبة وحصار دولي خانق ولكن في ظل حاضنة شعبية إجتماعية كبيرة نالها الفساد الإقتصادي والنهب الممنهج والإغتيالات والتفجيرات والإختطافات، فكانت المعجزة وهي تأسيس نواة جيش وطني صارع الارهاب وقضى على جزء كبير منه والذي كان يتغذى من "مؤتمر وطني" سيطرت على قراراته التيارات الاسلاموية، ثم "مجلس رئاسي" تم تنصيبه غصباً عن شرعية الليبيين ولم يتبق من اعضائه التسعة إلا عدد محدود مُعظمهم إخوان ومُقاتلة وواجهة مدنية مسيّرة، يتلقى الدعم من مشروع دولي قديم.
انتصر الجيش الليبي وتمدّد طول البلاد وعرضها، وها هو اليوم بعد ان كان مُحاصراً في قرية صغيرة تسمى الرجمة بضواحي بنغازي، يُحاصرهم اليوم (في رابعتهم) في العاصمة طرابلس.