"كيميا".. رواية الإلغاز

وليد علاء الدين أفاد من تجربته الشعرية في القدرة على التكثيف والتركيز لدمج الأفكار في عبارات مقطرة تحتاج من قارئها إلى إعادة فك شفرتها، وتفكيك ما في كبسولتها من أفكار.
نحن أمام كاتب يبدأ الرواية بحديث يبدو للبعض تسجيليًا حول الرحلة التي قام بها ليصل إلى ذاك المكان المهيب الذي يحتفل العالم بمرور ثمانية قرون على صاحبه
الكاتب يراوح بين أنواع الكتابة بما يستطيعه من إضفاء روح جديدة على ما يكتب

كاتب هذه الرواية له مغامرات في ارتياد أفق الكتابة بجميع أجناسها، وسأقصر حديثي هنا على هذا العمل الأحدث الصادر له في الثقاهرة عن دار الشروق بعنوان "كيميا". 
لم يكن البحث عن الذات الذي مارسه الكاتب وليد علاء الدين عمليًا أمرًا اعتباطيًا، وإنما كان استثمارًا لطاقات إبداعية اجتمعت في شخصه، فجعلته يراوح بين أنواع الكتابة بما يستطيعه من إضفاء روح جديدة على ما يكتب.
والحقيقة أنه أفاد في روايته هذه من تجاربه الكثيرة في كتابة الرحلة والمسرحية والشعر؛ ففي الرحلة يستحضر كاتبنا الصورة التي يمر بها قبل أن تُخلي مكانها في ذاكرته لتحل محلها صورة أخرى، فأدب الرحلات كثير الجولات والرؤى والمشاهد المتنوعة المختلفة التي يسابق الكاتب ذاكرته في كتابتها، لتثبيتها والاحتفاظ بها حية بعد أن تكون اللحظة قد ضاعت لتضع صورة أخرى أمامه مستبدلة إنسانًا بإنسان، ومكانًا بمكان، وزمانًا بزمان.
كما أفاد من تجربته الشعرية في القدرة على التكثيف والتركيز لدمج الأفكار في عبارات مقطرة تحتاج من قارئها إلى إعادة فك شفرتها، وتفكيك ما في كبسولتها من أفكار.
أما الرواية التي استخدم كل هذه الإمكانات لخدمتها فهي أيضًا مسرودة تجمع بين بحث الإنسان عن موقعه في هذا العالم، وبحث الإنسان عن أولئك الذين وضعوا في العالم بصمتهم الخالدة بما أتيح لهم من عبقرية أو شفافية وخلوص روح.

السر الوحيد الذي يجب أن يدركه العارف والباحث والدارس أيضًا هو أن الإنسان خلق في كبد، خُلق في كدح. ولك أن تصور هذا الإنسان كما يشاء لك عقلك، سواء إن كان من العارفين، أو من بسطاء الناس الذين يبحثون عن الحياة في أبسط صورها    

في هذه الرواية التي بدأت هادئة خاطفة فعلت بنا ما تفعله الطائرة بركابها عند الإقلاع، فهي تمشي على الأرض، ثم تجري فوق الأرض، ثم تنطلق بعيدًا عن الأرض محلقة بين السماء والأرض حتى تصل إلى وجهتها.
أليست تلك غاية الصوفي في بحثه عن الذات العليا، وعن موقعه من هذه الدنيا؟
أليس الإنسان منذ وُجد، ومنذ وُلد، وهو في رحلة للسعي والبحث والكد: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ".
هكذا الإنسان البسيط الذي لا يرى في الحياة إلا عملًا يؤديه وزوجة يستدفئ بها في ليالي الشتاء، وحياة يشعر أنها تبرر وجوده في هذه الدنيا.
ليس من الضروري أن يكون عابدًا متبتلًا كما ليس من المفروض أن يكون عالمًا مفكرًا، يكفي أن يكون الإنسان إنسانًا ليعمر الأرض ويزرعها ويحصد ما زرعه، فيعيش ويعطي الآخرين حياة.
نحن أمام كاتب يبدأ الرواية بحديث يبدو للبعض تسجيليًا حول الرحلة التي قام بها ليصل إلى ذاك المكان المهيب الذي يحتفل العالم بمرور ثمانية قرون على صاحبه، يتحرك صاحبنا موفدًا من قِبل "المركز العربي للأدب الجغرافي" لتسجيل رحلاته بمناسبة إعلان اليونسكو أن ذلك العام هو "عام جلال الدين الرومي".
تتحرك الطائرة من دبي يوم 14 ديسمبر/كانون الأول سنة 2007 قبل أن تختتم الاحتفالية بأيام ويضيع على صاحبنا أن يرصد ما يدور فيها، ولكن المؤلف لا يكتفي بهذا السرد الإخباري الجغرافي، وإنما يستطرد في الحديث عن الفندق الذي نزل فيه، واللغة التركية التي لا يجيدها، واللغة الإنجليزية التي لا يفهمها أولئك الذين نزل إلى ديارهم، ويصبح أسلوب الخطاب المتبادل هو أقدم أسلوب عرفه الإنسان باستخدام لغة الإشارة، ثم يتحدث عن الطريق إلى "قونية" وهي مسافة تبعد حوالي 500 كيلو متر عن مركز المدينة، أو عن عاصمة الدولة التي نزل فيها، فيفاجأ بأن الطائرات لا بد من حجزها قبل ذلك بأيام، والقطارات التي تقطع هذه المسافة لا بد من حجزها قبل أيام، والأتوبيس العام يحتاج هو الآخر إلى حجز مسبق، إذن ليس أمامه سوى أن يستأجر "تاكسيًا" يُقِلَه إلى هناك.

ذا سرد رحال وليس تحليل أديب، فهل أفلت الأمر من صاحبنا أم أنه كان مقصودًا لذاته؟ الحقيقة أن وليد علاء الدين لم يفلت منه الزمام ولكنه آثر أن تكون معاناة الإنسان في الوصول إلى هذا المكان المستهدف أشبه ما تكون بمعاناة الباحث عن الحقيقة أو المعرفة التي يريد الإنسان أن يصل إليها.
أما قدرة هذا الكاتب على الارتقاء بالسرد إلى مستوى الإبداع الروائي الرفيع، فانظر مثلًا إلى هذه العبارة التي دارت بين قطبي التصوف التي أستل منها هذا المقطع:
قال شمس الدين عندما أوقف ركب جلال الدين الرومي ليسأله: "قل لي أيها الشيخ، هل الرسول محمد أعظم أم أبو يزيد البسطامي؟"، فيجيبه: "وماذا يكون البسطامي بجانب خاتم الرسل والأنبياء؟"، فيعقب عليه قائلًا: "فكيف يقول البسطامي إذًا: "ما أعظم شاني. بينما يقول محمد: ما عرفناك حق معرفتك"؟ فيجيب قائلًا: "لأن البسطامي كوب، ومحمدًا محيط... امتلأ الكوب ففاض، وكيف للمحيط أن يمتلئ؟".
انظر أيضًا إلى هذه المناجاة الحوارية التي خلعت على الراوي صفات الختل والدهاء، وهو يقول: "استلقيت على السرير مندهشًا من تلك اللعبة التي تلعبها الأحلام معي".
هل حلمت حقًا بعلاء الدين؟ لم يكن هو مَنْ يخوض بقدمين حافيتين في مستنقعات "قونية" الباردة. كنت أنا. لم أكن أنا من يخشى لقاء جلال الدين. كان هو. لم يكن هو من فسدت هيأته وملابسه بفعل البرد والسير لمسافة طويلة. كان أنا. لم يكن أنا من ذوبه عشق "كيميا" وخشي عليها من الظل المعتم. كان هو. لم يكن هو من صحا في غرفته مرتبكًا لا يعرف الحلم من الواقع. كان أنا. لكنه في نهاية الحلم لعب لعبته السحرية بالأسماء.. اللعبة نفسها التي قالتها عبارة المرآة: "علاء الدين ولد، وليد علاء الدين. متى حلمت بعلاء الدين؟ أذكر فقط أنني تذكرت هذا الحلم عندما نظرت إلى مرآة الغرفة داخل الحلم. متى كان ذلك؟ ما الذي يحدث معي؟ يجب أن أخرج من هذه الغرفة. والآن".

Egyptian novel
هل كانت "كيميا" ضحية؟ 

نحن إذًا أمام رؤى متعددة تتضبب بين الواقع وحلم النائم وحلم المستيقظ وحلم المُتَخيل، وفي جميع الحالات هي غرف كثيرة يؤدي بعضها إلى بعض لنصل في النهاية أو لا نصل إلى محاولة لفهم السر اللغز في هذه الرواية الذي حاول الكثيرون أن يبحثوا عن جواب له؛ تارة بالمديح وتارة بالذنب، تارة بالتفسير والتبرير وتارة بالاتهام.
وعلى سبيل القول نتساءل: هل كانت "كيميا" ضحية؟ 
وقبل ذلك يجب أن أسأل: من تكون "كيميا"؟
أهي تلك الحسناء الشابة الصغيرة التي أحبها أو أحبت شابًا يماثلها في العقل والعمر والآمال؟ أم أنها شيء آخر قد يكون الروح التي يطمح الإنسان إلى الوصول إليها أو السيطرة عليها، وقد تكون الكَنز الذي يحاول كل منا أن يستخرج كوامنه فيرى نفسه سعيدًا أو يرى الكنز تعيسًا.. الرؤى تتغير والتفسيرات تختلف لأن السر الوحيد الذي يجب أن يدركه العارف والباحث والدارس أيضًا هو أن الإنسان خلق في كبد، خُلق في كدح. ولك أن تصور هذا الإنسان كما يشاء لك عقلك، سواء إن كان من العارفين، أو من بسطاء الناس الذين يبحثون عن الحياة في أبسط صورها.