لقاء نادر مع نجيب محفوظ

لم تكن علاقتي بنجيب محفوظ مجرد علاقة قاريء بكاتب ولكنه أصبح بالنسبة لي مثلا أعلى من الناحية الإنسانية وكان يعاملني بود وكأنني ابنه.
عندما رأى سيارتي المرسيدس تردد قليلا وقال لي: إنت كده حتعمل لي سمعة بطالة أني بأركب مرسيدس
بعد فوزه بنوبل شعرنا نحن الأصدقاء القدامى للندوة بالغربة وسط هذا الحشد من الناس

علاقتي بنجيب محفوظ بدأت منذ أن بدأت قراءة رواياته "خان الخليلي" "وزقاق المدق"، ثم بعد ذلك قرأت ثلاثيته (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية)، ثم أخذت أتابع كل ما يكتبه سواء كتبا منشورة أم روايات مسلسلة مثل "المرايا" أم مقالات.
وفي يوم ما - وأذكر أنه كان يوم خميس في منتصف السبعينيات - وكنت أعرف أن نجيب محفوظ يذهب إلى مكتبه بجريدة الأهرام كل يوم خميس، ولست أدري من أين جاءتني الجرأة للإتصال به بجريدة الأهرام، وعندما أتصلت أوصلني به مباشرة عامل التليفون بدون أي سكرتارية، وتلعثمت قليلا قبل أن أعرفه بنفسي وقلت له:
أنا سامي البحيري، وليس لي أي صلة أو علاقة قرابة مع سرحان البحيري (وهو شخصية انتهازية سياسية في رواية نجيب محفوظ ميرامار)، فضحك نجيب محفوظ ضحكته الشهيرة وسألني: ممكن أقدم لك أي خدمة؟
فقلت له: أنا نفسي أزورك!
فقال: أتفضل في مكتبي هنا في الأهرام!
ولم أصدق نفسي من الفرحة بأني سوف أقابل كاتبي المفضل نجيب محفوظ، وذهبت على الفور بسيارتي إلى شارع الجلاء بوسط القاهرة، ووجدت مكانا بصعوبة لركن السيارة، ووصلت إلى مكتب نجيب محفوظ المتواضع حيث كان يجلس في غرفة صغيرة بها مكتبان، مكتب له ومكتب للإستاذ توفيق الحكيم. وبسبب المرور وسط القاهرة وصلت متأخرا وكان الإستاذ نجيب على وشك مغادرة المكتب، واستقبلني بترحيب وببشاشة، واعتذرت له عن التأخير، وقلت له بأني سعيد برؤيته ولا أريد سوى ذلك، فقال لي ببساطته الشديدة: إيه رأيك تشرفنا بكرة الجمعة الساعة 5 بعد العصر في كازينو قصر النيل أحنا بنجلس مع مجموعة من الأصدقاء.
ولم أصدق نفسي وودعته بعد لقاء لم يستمر أكثر من دقيقة، وذهبت في اليوم التالي إلى كازينو قصر النيل، وعرفني الإستاذ نجيب على مجموعة الأصدقاء معه، وكانت مجموعة صغيرة أربع أو خمس أشخاص في هذا الوقت، وقام الإستاذ نجيب بعزومتي على المشروب، حيث كانت هذه عادته بأن يدفع حساب الضيف الجديد أول مرة فقط.  

nageeb

واستمرت علاقتي بنجيب محفوظ حتى وفاته، ولم تكن علاقتي بنجيب محفوظ مجرد علاقة قاريء بكاتب ولكنه أصبح بالنسبة لي مثلا أعلى من الناحية الإنسانية وكان يعاملني بود وكأنني ابنه، وبعد أن هاجرت إلى أميركا كانت اللقاءات الأسبوعية مع نجيب بيه هي أكثر شيء افتقدته في المهجر، وكنت كثيرا أحادثه تليفونيا، وأذكر مرة من المرات أنه قال لي: "إيه راجع لنا أمتى؟ وبعدين إنت إيه إللي مخليك عايش في أمريكا، أنت راجل زينا بتحب الأنس!!" وكانت كلمة حقيقية لأنني أفتقدت "أنس" نجيب بيه وأصدقاء الندوة والأهل بصفة عامة، ولكن هذه هي الضريبة الذي يدفعها المهاجر.
ومن الشخصيات التي ظهرت بوضوح في ثلاثية نجيب محفوظ هي الشخصية الرئيسية كمال عبدالجواد (وبها جزء كبير من نشأة وشخصية نجيب محفوظ نفسه) وأحب كمال شخصيات عايدة  وبدور شداد جيران كمال بالعباسية، وكان صديقا لأخيها عباس شداد.
ومن الصدف الغريبة أنني عندما خطبت زوجتي إكتشفت أن والدتها (حماتي) هي صباح شديد وهي الشقيقة الصغرى لكل من عايدة وبدور وعباس شديد وكانوا جميعا يسكنون بالعباسية وجيران نجيب محفوظ كما جاء بالثلاثية (وإن كان استخدم نجيب محفوظ اسم العائلة شداد بدلا من شديد).
وفي إحدى المرات، وبعد انتهاء ندوة الجمعة لم يكن الزميل الذي يوصل نجيب بيه إلى منزله موجودا في هذا اليوم، فعرضت على نجيب بيه أن أقوم بتوصيله للبيت فوافق، وعندما رأى سيارتي المرسيدس تردد قليلا وقال لي: إنت كده حتعمل لي سمعة بطالة أني بأركب مرسيدس، وضحك ضحكتة المجلجلة الشهيرة، وركب معي السيارة، وفي السيارة دار بيننا هذا الحوار:
أنا: أنا خطبت واحدة حضرتك تعرف عيلتها!
نجيب بيه: ألف مبروك ومين ياترى؟
أنا: والدتها من عيلة شديد جيرانكم بالعباسية سابقا، وخالاتها عايدة وبدور شديد.
تردد قليلا ثم قال: مبروك ... مبروك.
أنا: دي نفس العيلة إللي حضرتك ذكرتها في الثلاثية ولكنك استخدمت اسم العائلة شداد بدلا من شديد.
نجيب بيه (نفى نفيا ضعيفا بعد تردد): لا ... مش نفس العائلة، دي حكاية طلعها إحسان عبدالقدوس إللي كان وقتها من سكان العباسية..
... وإنتهى الحوار بهذا الشكل.
وبعد هذا الحوار بحوالي ثلاث سنوات هاجرت مع زوجتي إلى أميركا واستمرت علاقتي بنجيب بيه تليفونيا، وكنت كلما أنزل مصر أحضر الندوة في كازينو قصر النيل وفيما بعد في فندق شبرد أو فندق المعادي.
وفي يوم الخميس 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 1988 تم إعلان فوز نجيب بيه بجائزة نوبل في الأدب، وكان يوما من أسعد أيام حياتي، ويوم الندوة التالي الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 1988 لم يكن هناك موضع لقدم في كازينو النيل، حيث حضر الناس والصحفيون والمصورون من كل مكان للإحتفال بنجيب بيه وجائزة نوبل، وشعرنا نحن الأصدقاء القدامى للندوة بالغربة وسط هذا الحشد من الناس، وإن كان هذا لم يقلل من فرحتنا لأننا شعرنا بأننا جميعا قد حصلنا على جائزة نوبل وليس نجيب محفوظ فقط، وبعدها لم تصبح الندوة كما كانت، وأصبحت أكثر أزدحاما بعد جائزة نوبل.
وفي يوم الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1994 كنا نجلس في كازينو قصر النيل الساعة 5 بعد العصر في انتظار نجيب بيه وكانت مواعيده مضبوطة بشكل غير طبيعي حتى أن الكاتب الساخر محمد عفيفي كتب مقالا مشهورا عن نجيب محفوظ عنوانه "رجل الساعة"!، ولم يحضر رجل الساعة كعادته ولم يحضر أيضا الزميل الدكتور فتحي الذي يوصله دائما بسيارته للندوة، فساد القلق بيننا، وتطوع أحد زملاء الندوة بمكالمة منزل الإستاذ فقيل له بأن الإستاذ إصيب في حادث تصادم بالسيارة وتم نقله لمستشفى الشرطة بجوار بيته.

نجيب محفوظ
عيد ميلاد الأستاذ

وعلى الفور ذهبت مجموعة منا إلى مستشفى الشرطة لمحاولة زيارة نجيب بيه، ووجدنا باب المستشفى الرئيسي مغلق ولا يسمح لأي أحد بالدخول. وبعدها ذهب كل إلى بيته، وفي بيتي وتمام التاسعة مساء سمعت أول خبر في نشرة أخبار التليفزيون المصري وكان محاول اغتيال نجيب محفوظ وكان من أسوأ الأخبار التي سمعتها في حياتي.
وقد حاولت زيارته في مستشفى الشرطة أكثر من مرة، وكل مرة قيل لي بأن الزيارة ممنوعة إلا للأهل فقط، فعملت حيلة أني ذهبت للمستشفى بصحبة زوجتي وإبنتيّ وقلنا لمسؤولي الأمن بأني ابن خالة نجيب بيه ومعي أسرتي لزيارته، ولما رأى المسؤول بأني مع أسرتي وأطفال صغار لم يخالجه شك بأني قريب الإستاذ، وأنا أعتبر نفسي أكثر من قريب، لأني أعتبر نجيب محفوظ الأب الروحي لي، ومن أكثر الذين أثروا في حياتي بصورة إيجابية. وفعلا دخلنا غرفته وسعدت برؤيته وسعد برؤيتي والتعرف لأسرتي، ولم تستغرق زيارتي سوى دقائق معدودة وكانت هناك زوجته وابنتاه.
وبعد محاولة الإغتيال توقفت ندوات نجيب محفوظ مؤقتا ودخل هو في حالة إكتئاب مؤقتة ثم عاد مرة أخرى إلى ندوات متعددة في فندق شبرد وفندق المعادي.
وفي يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1995 كان هناك احتفال بعيد ميلاد نجيب محفوظ الـ 84 في فندق شبرد، فقررت عمل مفاجأة للأستاذ نجيب حيث اصطحبت حماتي السيدة صباح شديد شقيقة عايدة وبدور شديد وزوجتي وابنتيَّ، وسعد نجيب بيه كثيرا برؤية أحد أفراد عائلة شديد حيث تذكر الأيام الخوالي، وإلتقطنا بعض الصور التذكارية معه وكان يوما لا يُنسى.