لو عاد جمال الدين الأفغاني إلى الحياة لكان أنكرهم

طالبان لن تتوقف عند حد وستفاجئ العالم بأنها تغيرت ولكن نحو الاسوأ والأبشع والأخطر.
الداء متشابه مهما اختلف الوصف والتوصيف
طالبان تعود بقوة إلى المشهد الأفغاني وإلى جذورها الأصلية في إعلان إمارة إسلامية
حين تنتهي عمليات الإجلاء ستعود طالبان إلى كشف وجهها القديم الجديد

لو كتب للمصلح جمال الدين الأفغاني العودة إلى الحياة لأنكر أي انتماء لطالبان ولكان أول من وقف ضد وجود هذا التنظيم المتشدد الغارق في الظلامية والظلم. ينسب للأفغاني قوله "العبيد هم الذين يهربون من الحرية فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر". ولكن ينسب له أيضا قوله "لن تنبعث شرارة الإصلاح الحقيقي في وسط هذا الظلام الحالك إلا إذا تعلمت الشعوب العربية وعرفت حقوقها، ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والعقل". وهو بالتأكيد أصل الداء الذي يهدد المجتمعات والشعوب التي خذلت العقل والمعرفة وانساقت إلى غطاء الدين والرياء والنفاق.

وهو بذلك يتفق اتفاقا كاملا مع معروف الرصافي عندما قال:

"ابنوا المدارس ابنوا المدارس

 واستقصوا بها الاملا

حتى نطاول في بنيانها زحلا

لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم

بل علموا النش‏ء علما ينتج العملا"

نقتبس من الأفغاني ومن الأديب العراقي الكبير شاعر الحرية معروف الرصافي الذي أدرك مبكرا ما لم تدركه الأنظمة والحكومات المتعاقبة في العراق وفي العالم العربي والإسلامي الموبوء بالجهل والفساد والانحطاط للتأكيد على أن الداء متشابه مهما اختلف الوصف والتوصيف. الرصافي كان أدرك أن طريق الخلاص يمر عبر التعليم والمعرفة التي يمكن أن تقود مريديها إلى الفضاء والى ما بلغته الدول المتقدمة في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. نقول هذا الكلام ونحن نستعيد ما يحدث في أفغانستان بعد عودة حركة طالبان العائدة من العصور الغابرة للسيطرة على البلاد والعباد والاستفادة من حالة الفراغ الحاصل الذي هيأ له وكرسه انعدام الانتماء الوطني والفساد المالي والسياسي والجهل والتخلف السائد وصراعات أمراء الحرب وتجار السلاح وسماسرة المخدرات من شأنه أن يدفع إلى الانتباه لتداعيات ومخاطر هذه العودة التي تتجاوز حدود طالبان الجغرافية إلى مختلف المناطق التي امتدت إليها الشبكات الإرهابية وتمكنت من التغلغل فيها والأمر لا يتعلق بتحذيرات التقرير الثالث عشر للأمم المتحدة حول تفاقم مخاطر تنظيم داعش في الشرق الأوسط وإفريقيا ولكن وهذا الأهم حول مظاهر الإفلاس والانهيار المجتمعي والتربوي والقيمي الحاصل.

وحتى نفهم أسباب عودة طالبان وهي عديدة ومعقدة ومرتبطة أيضا بلعبة إستراتيجية دولية امتدت من التدخل البريطاني إلى التدخل السوفياتي ثم الأميركي بمختلف المحطات والانسحابات المذلة التي رافقت ذلك في مقبرة الإمبراطوريات فقد يكون من المهم العودة إلى جذور نشأة حركة طالبان التي تعود إلى المخيمات والملاجئ الأفغانية في الجوار الباكستاني حيث لم يقع الانتباه لبذرة الجهل والتشدد التي بدأت تثمر العقلية الطلبانية التي ستعجل بزرع الدم والقتل والتفجيرات والاغتيالات في كل العالم، وحسب المعطيات المتوفرة فان الحركة ظهرت أوائل التسعينيات شمالي باكستان، وأكثر عناصرها من الباشتون عقب انسحاب قوات الاتحاد السوفيتي السابق من أفغانستان. وعلى ارض باكستان أيضا لجأ قادة التنظيم وهناك اختفى بن لادن، وهناك أيضا ظهرت صاحبة جائزة نوبل للسلام الطفلة ملالا التي هاجمتها طالبان وشوهت وجهها قبل ان تتمكن من الخروج والعلاج في بريطانيا وأميركا ويعتقد على نطاق واسع أن طالبان بدأت في الظهور لأول مرة من خلال المعاهد الدينية، التي تمول في الغالب من السعودية آنذاك.

طالبان وبعد عودتها إلى المشهد الأفغاني وهو ما صدم الرأي العام المحلي والدولي  تعود إلى جذورها الأصلية في إعلان إمارة إسلامية وقد بدأت بتغيير راية أفغانستان الوطنية تمهيدا لما هو آت.

من المفارقات أن الرئيس الأميركي جو بايدن وبعد أن استفاق من وقع المفاجأة بدأ يغازل طالبان مؤكدا في تصريحات له نهاية الأسبوع أن الحركة وفت حتى الآن بوعودها ولم تتجاوز حدودها ولم تتعرض لأحد من القوات الأميركية التي لا تزال تتواجد هناك بأي سوء وهو ما يعني أن كل ما يحدث لغير القوات الأميركية في هذا البلد أمر يمكن غض الطرف عنه وتجاهله طالما انه لم يصب الأميركان بسوء خلال الانسحاب من أفغانستان.

وقناعتنا ان طالبان لن تتوقف عند هذا الحد وستفاجئ العالم بأنها تغيرت ولكن نحو الاسوأ والأبشع والأخطر. لسنا نستبق الأحداث أو لا نحاول الانسياق وراء التوقعات والتنجيم ولكن الحقيقة أننا إزاء حركة عنيفة فكرا وممارسة وهو ما يفسر محاولات هروب آلاف الأفغان من مختلف الأجناس والانتماءات رغم كل المخاطر التي يواجهونها والأرجح أن ذلك الجيل الذي لم يعرف طالبان خلال العقدين الماضيين والجيل الذي قبله قد سمع الكثير عن المحاكم والمشانق التي نصبت في الساحات العامة وفي الملاعب الرياضية لجلد النساء أو رجمهن حتى الموت بسبب اتهامات بعضها ربما بلا سند وتنم عن حقد وعداء للنساء وللحياة وللفن حتى أنهم حرموا التعليم ومنعوا الراديو والتلفزة وأغلقوا على النساء كل المنافذ وحاصروهن خلف البرقع ليرافقهن في سجنهن المتنقل حتى أن الكثير من النساء اضطررن بسبب طالبان إلى التنكر في أزياء الرجال حتى يتمكن من الخروج والعمل. عودة طالبان اليوم بعد عشرين عاما في المغاور والجبال تعني عودة حركة أكثر تشددا وأكثر توحشا وأكثر استعدادا للانتقام لاسيما وان الحركة تمكنت من وضع اليد على جل الأسلحة التي كانت بين أيدي الجيش الأفغاني الذي تبخر بين عشية وضحاها.

هم الغرب الوحيد اليوم إجلاء مواطنيه قبل انقلاب طالبان وتعمدها الانتقام من الجميع. والأكيد انه عندما تنتهي عمليات الإجلاء ستعود طالبان إلى كشف وجهها القديم الجديد..لا خلاف أن ورقة طالبان باكستان كانت وتبقى ورقة السلطات الباكستانية أيضا في مواجهة العملاق النووي الهند والعملاق الاقتصادي الصين وتحويل الأنظار والجهود والتمويلات إلى هذا المارد الطالباني العائد من المغاور والجبال.