متطلبات القوى المصرية الناعمة للمرور بطريق الحرير الجديد

يقف الشيوعيون المصريون في انتظار صين من عصر الزعيم ماو. الصين اليوم شكل ثقافي متجدد.

شهدت مصر في الآونة الأخيرة لقاء حضاريا موسعا مع الجانب الصيني في سياق المبادرة التنموية الصينية المعروفة بـ"الحزام والطريق"، شمل اللقاء عدة مستويات ناعمة (أدبية وسياسية وثقافية) وصلبة (اقتصادية). شمل لقاء القوى الناعمة المصرية الصينية ثلاثة أحداث بارزة: لقاء أدبي رفيع تحت اسم المنتدى الأدبي العربي الصيني الأول؛  لقاء ثقافي تناول مقاربة إدارة التراث ودوره في التنمية الصينية من خلال الصناعات الثقافية؛ ولقاء سياسي ضم ممثلي الحزب الشيوعي الحاكم في الصين مع الأحزاب المصرية. كما شمل عدة لقاءات صلبة تضمنت اتفاقات في مجالات الزراعة والانشاءات والتصنيع والتعدين والإلكترونيات.

لعل الملاحظة الأبرز كانت على مستوى القوى المصرية الناعمة في اللقاءات الثلاثة هي الجمود عند الموقف التاريخي النمطي القديم للبعض، والبدء من حيث توقفت النخبة المصرية في مساراتها ومواقفها، لا من حيث تسعى المبادرة الصينية للتأسيس لواقع حضاري جديد تماما! فتصرفت بعض النخب الناعمة المصرية على أن حضورها إما للانتصار لمواقفها التاريخية، أو للتأكيد عليها.

مواقف ثلاثة دالة

وقد برزت هذه المشاهدة من خلال عدة مواقف. أولا: في اللقاء السياسي خرجت بعض الأصوات تستنكر أن يجمع لقاء الحزب الشيوعي الصيني بالإضافة للأحزاب اليسارية أو الشيوعية المصرية، جمعا من الأحزاب المصرية الأخري الليبرالية أو غيرها وكأن بعضهم يظن أن الأمر لقاءا أيديولوجيا تنظيميا في سياق المنظمة الشيوعية الدولية القديمة (الكومينترن).

ثانيا: في اللقاء الثقافي حول التراث الثقافي غير المادي وتجربة الصين في إدارته وتوظيفه لصالح التنمية من خلال الصناعات الثقافية، تجادل البعض حول مصطلح الصناعات الإبداعية أو الثقافية الذي طرحه الجانب الصيني وضرورة اختيار اسم بديل له كـ"التصنيع الثقافي"، في إشارة لموقف أيديولوجي ما من تسليع المنتج الثقافي وفق اقتصاديات السوق المفتوح، والبحث عن مصطلح يرتبط أكثر بسياق الإدارة الشمولية للمجتمع، وكأن البعض يظن الصين حضرت مصر لتقدم نموذجا تاريخيا متخيلا ما.

ثالثا: على ضفاف اللقاء الأدبي تواتر الجدل حول موقف البعض من التراث وتمثلاته في مواجهة التدافع مع التحديث وأشكال الفن في الحياة المعاصرة، في ظل أن محوري اللقاء الرئيسيين اللذين اختارهما الجانب الصيني كانا أقرب إلى جدلية التراث والحياة المعاصرة في الأدب. فبدا البعض وكأنه يصدر موقفا تاريخيا ينم عن الأزمة من التراث والقطيعة معه، وكأن المسألة أقرب لسياق عقدة الصراع التاريخية بين اليسار واليمين العربي، وكأنه يظن اللقاء الصيني انتصارا لما يظن أنه يعتقد فيه.

 تحديد المشكلة والقاسم المشترك

 والمشكلة هنا شائعة ونمطية في العقلية العربية الكلاسيكية التي يقف كل منها عند صراعه وسياقه التاريخي الخاص به، ويريد أن يبدأ دائما من حيث توقف هو، لا من حيث أصبح العالم جاهزا يقدم الدعوة لمن يقدر على استيعاب اللحظة ويدرك أبعادها وينطلق من خلالها، المشكلة أننا نتمركز حول الذات بشدة أحيانا ونصبح أسرى لتجربة ما، دون أن نملك وعي الخروج منها وإرادة النظر للعالم وما حدث به.

فالمبادرة الصينية هي إطار حضاري ما زال في طول التشكل لحد بعيد، لكنها ليست شكلا كلاسيكيا للتجربة الشيوعية القديمة كما كان يقرأ عنها المثقفون المصريون ويبحثون عن كتب ماو في "سور الأزبكية" لبيع الكتب المستعملة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب! لأن الصينيين أنفسهم تغيروا كثيرا، ربما يتحسسون الطريق بهدوء لكنهم يتقدمون بثبات، ويفتحون المجال أمام الأفكار الجديدة التي من شأنها أن تبلور المبادرة الحضارية وتشارك في فهمها، وتقدم لها تصورات نظرية ومعرفية تثبت أقدامها على الأرض، كبديل يسعى ليقدم نفسه في مواجهة النموذج الاستعماري الغربي القديم والمستمر.

مركز عالمي بديل للمركز الأوروبي

تقوم هذه المبادرة على خلق مركز عالمي جديد وبديل للمركز الأوربي بشكل ما، لكن هذا المركز الصيني الجديد يريد أن يقدم نفسه في صورة إيجابية تناقض معظم سلبيات المركز الإمبريالي القديم، لذا هو في حاجة لشركاء يتفهمون المبادرة وتاريخ الشعب الصيني المعاصر ذاته وبحثه عن معادلة حضارية جديدة.

خلطة حضارية وسياسية جديدة لم تستقر بعد

الصين تسعى لتقدم خلطة حضارية جديدة، بدت ملامحها الإجرائية والتقنية بعض الشيء، لكنها لم تحسم العديد من الأمور الفكرية والحضارية. الصين لا تقدم على المستوى الحياتي نظاما صارما للحياة يقوم على الشمولية وفرض النمط الواحد كما في الشيوعية الكلاسيكية. وعلى المستوى السياسي حضور الحزب الواحد تحت المسمى الشيوعي ينافسه ظهور كيانات ذات نفوذ متصاعد تعتمد على المال وعلى الثقافات المحلية التي كانت تحارب قديما، والاقتصاد لم يعد اقتصادا مركزيا لدولة تسيطر على الإنتاج ورأس المال، بل سمح للصينيين بالعمل في المشاريع الصغيرة ومراكمة رأس مال خاص بهم، والتنافس الفردي في التطور وتوسيع نطاق الأعمال. وعلى مستوى الصناعة استوعبت الصين قاعدة صناعية محلية لماركات محلية إلى جوار وجود الماركات العالمية التي تصنع محليا وفق شراكة خاصة. ومع تطور رأس المال الصيني بدأت هذه الشراكة في التوسع العكسي خارج الصين، باستحواذ الصين على العديد من الأصول والماركات الدولية. المهم هنا أن الشكل النهائي للمعادلة الحضارية ودور النخبة الشيوعية في علاقتها بإدارة مثل هذا الاقتصاد لم يصل للمحطة النهائية ووضع العنوان المجمل لها بعد.

موقف جديد ومغاير من التراث الثقافي

وعلى المستوى الثقافي والموروثات الشعبية التي تميز الأقليات القومية المتعددة داخل الصين، اختفى الفكر الشيوعي القديم الذي كان يحارب التميز المبني على الموروث في محاولة للتنميط المادي خصوصا إبان ثورة ماو الثقافية آواخر الستينيات، وأصبح هناك احتفاء بالتراث الثقافي الصيني غير المادي وقطعت الصين شوطا عظيما في التعاطي مع منظمة اليونسكو وتوظيف الموروث في التنمية و"الصناعات الثقافية". كما أن الصين ليست لديها مشكلة مع مصطلح "الصناعات" الذي قد يثير الحساسية لدى بعض الشيوعيين القدامى المصريين لأنه يتربط بفكرة التسليع الرأسمالي، وتحويل الثقافة لسلعة. فالصين على المستوى الإجرائي قبلت بالعديد من التفاصيل والأدوات الرأسمالية تحت شرط سيطرة واحتكار الحزب الشيوعي على السلطة، في معادلة خاصة بها ما تزال هذه المعادلة تتحرك ولم تستقر على شكلها النهائي بعد.

موقف أكثر اتزانا من الموروث والأدب

وعلى المستوى الأدبي فإن الثمانينيات والتسعينيات في الأدب الصيني لم تغرق في فخ الاندفاع وراء المدارس الأسلوبية والشكلية التي سادت في تيار ما بعد الحداثة الغربي وتمثلاته، بل انغمست أكثر في طبيعتها المحلية للبحث عن الجذور وتوظيف التراث للتأكيد على الذات. ويعد الروائي مو يان الحائز على جائزة نوبل من أبرز من مزج المعتقدات الشعبية والموروث بالواقع التاريخي وبحث في علاقة الماضي بما هو آني. ورغم تحولات ما بعد أحداث ميدان تيان آن من والصراع حول المزيد من الديمقراطية والحريات، والاستقطاب الذي دخل فيه الغرب بشكل أو بآخر على المستوى السياسي والأدبي والثقافي، وهو ما تأكد مع التحولات الرأسمالية منذ نهاية التسعينيات وصعودها حتي العقد الأول من الألفية الجديدة، إلا أن عودة مركزية الحالة الصينية مجددا في العقد الثاني من القرن الجديد من خلال مبادرة "الحزام والطريق" جعل الجدل يتجدد بين ذاتية الحالة الصينية تراثا وحاضرا وأثر التجربة الغربية الديمقراطية اقتصاديا وثقافيا.

 لكن التجربة الصينية لا تعلن قطيعة مركزية مع الموروث الشعبي بحجة قداسة النموذج الغربي. حتى في عز التشدد الشيوعي مع ماو كان التأكيد على حضور الخصوصية الصينية. فالصين لا تحمل حكما معرفيا مسبقا إزاء الموروث كبعض النخب العربية المستلبة للتجربة الغربية.

مهارات التدافع الحضاري والمزج بين الناعم والصلب

هناك تحديات يجب أن تتجاوزها النخب المصرية في الشراكة الحضارية الجديدة مع الصين، يستلزم أن تقوم على الفهم لطبيعة الشعب الصيني الآنية وأن المبادرة ليست لقاء عابرا أو تأكيدا على أيديولوجية ما أيضا، بل هي شراكة حضارية في طور التشكل والبدأ من جديد على صفحة بيضاء. علينا أن نستعد بالعلم وروح التجرد للتعاطي معها، والوعي بضرورة الربط بين الناعم والصلب؛ بمعنى أن تطالب مصر بمركز صلب وخشن داخل المبادرة، عن طريق مدينة تتحول رسميا لمحطة واقعية وفعلية داخل طريق الحرير الجديد (الإسكندرية كانت محطة شهيرة قديما). من هنا نكون حققنا التواجد الصلب والمدمج فعليا في مباردة الطريق الجديد، ثم نربط وجودنا الصلب هذا بقوة ناعمة تخرج عن المركز الصلب، متفهمين تحديات القرن الجديد وممتلئين بالثقة لطرح مشروعنا الحضاري بهويته المستقلة القادر على توليد تجربته الخاصة، والمنفتحة على سبيل الشراكة وتبادل المزيج الثقاقي البكر على طول طريق الحرير الجديد.