محمد بن رجب يبوح بأسرار العمر

الكاتب التونسى: انتقدت بورقيبة كثيرًا ولكن بحب، فهو زعيم مؤسس وشجاع في الإصلاحات ولكنه أخطأ في حق الحرية والديمقراطية كما أخطأ في حق العروبة.
أفضل أن أنتمي إلي الأفكار لا إلى الساسة والزعماء
أفتخر بحوارات كثيرة أجريتها مع شخصيات أدبية شهيرة

قريبًا ينهي الكاتب التونسي محمد بن رجب العقد السابع من عمره دون خوف من المستقبل الذي سيعيشه بشجاعة لأنه من طينة لا يزعجها الآتي ابدًا، ولا يقلقها المجهول، إذ لم يغرس محمد بن رجب ما يمكن أن يجعله يحصد ما رفضه في حياته من نفسه ومن الناس.
ومن المؤكد أن السبب في ذلك يعود لكونه عاش ما أراد أن يعيشه. إذ لم يفرض عليه أحد شيئًا لا يقبله. ولم يكن مرتبطًا بأحد من حيث المصالح والمنافع، فظل متحررًا من القيود. حتى ومع أنه اشتغل في مؤسسة إعلامية خاصة، فهو لم يرضخ إلا لمقتضيات العمل، مع تفهم الظروف والأوضاع.
رأيت أن أستهل حواري معه بالتعرف على مسقط رأسه، لأعرف أصيل أية بقعة من التراب التونسي هو، فقال: أنا من مدينة "قليبية" في الشمال الشرقي للبلاد التونسية في منطقة تسمى الوطن القبلي. وتسمي أيضًا "رأس الرجاء الصالح". وتسمى كذلك "دخلة المعاويين". وتوصف بشبه الجزيرة. فهذه المنطقة يد ممدودة في البحر المتوسط من ثلاث جهات.
ولما ولدت فيها كانت قليبية بلدة صغيرة مشهورة بمينائها الصغير، وبجمال شاطئها، مع تاريخ عريق طويل؛ ففيها ينتصب البرج الروماني والبيزنطي والوندالي  والإسلامي والإسباني والعثماني والفرنسي. وطبعا التونسي المستقل. ترفرف عليه الراية التونسية الجميلة.
والمنطقة قديمة أقدم من تلك الحضارات كلها، إذ تعود إلى بدايات البربر والأمازيغ. والبربر هم السكان الأصليون للبلاد التونسية.
وكل ذلك يعني أن قليبية عرفت كل الحضارات التي مرَّت على البحر الأبيض المتوسط، بما فيها الحضارة القرطاجنية التي انسابت قبل حوالي ألف عام من تاريخ ما قبل المسيح. انطلاقا من حضارة الفينيقيين في لبنان، وبالتحديد من مدينة صور.

ويوضح الكاتب الكبير محمد بن رجب أن مسقط رأسه مدينة قليبية التي كبرت مع الأيام في عهد الاستقلال دون أن يكون للسلطة الأيادي الكريمة فيها، فقد نمت بجهود سكانها الذين تمكنوا من أن يجعلوها مدينة رائعة منتجة فاعلة في اقتصاد تونس اشتهرت بحبها للثقافة، واحترامها للمثقفين، وقد ارتمت في أحضان العلم والتعليم منذ عهد الاستعمار. واليوم تعتبر الأولى في تخريج عدد ملفت من  الأطباء والمهندسين، وقد أعطت عددًا كبيرًا من  المثقفين وعددًا من الشعراء والقصاصين والمؤرخين والأساتذة الجامعيين. ويصعب أن تجد مدرسة أو معهدًا أو جامعة ليس فيها أساتذة وعلماء وباحثون من قليبية.
وعن تفتحه على الحياة فيها بوضح بن رجب: لم أكن فقيرًا.. ولم أكن غنيًا؛ والدي كان إمامً أكبر جامع بالمدينة، وكان فقيهًا، لكنه ولأسباب يطول سردها، لم يشتغل في بداية حياته، لا بالتعليم ولا في الإدارة، ولا في القضاء.
 فعاش من التجارة في البداية، ولكنه لم يفلح فيها. فطلب إلحاقه بالتدريس وهو يتجاوز الخامسة والأربعين. فلم يوافقوا إلا بصعوبات جمة. ولنقل إنه أصبح معلمًا بتدخلات من أطراف عديدة. ويكمل ضيفي: ولكم كنت معتزًا به. وكنت أناديه الشيخ الهادي بن رجب، ولا بابا.. ولا أبي.
ولكن ما نوع التعليم الذي تلقيته أنت في البداية؟ أسأل محمد بن رجب، فيجيبني: طبعًا تلقيت تعليمي الإبتدائي في قليبية، والثانوي في مدينة نابل على بعد خمسين ميلًا. ومن الطريف أن المربين والأستاذة وجهوني في بداية التعليم الثانوي لدراسة الاقتصاد. وفعلًا درسته لمدة خمس سنوات، انتهت بنيل شهادة البكالوريا. ومع ذلك فلم أكن أحب الاقتصاد، ولم أخطط لحظة واحدة لأكون إداريًا أو باحثًا في هذا المجال. فقررت أن أبتعد عن الاقتصاد في دراستي الجامعية. واخترت دراسة التاريخ. لأنني كنت مغرمًا بالأدب أولًا، وبالفنون ثانيًا.. مع اهتمام خاص بالإسلاميات بفضل تأثري بالشيخ الوالد. 

tunis
أنا صحفي ثقافي درس التاريخ والإعلام

لم أتوجه إلى الآداب ربما لأني اعتقدت أن تلميذًا من شعبة الاقتصاد قد يجد صعوبة في دراسة الأدب العربي، أو الفرنسي في الجامعة.
أما عن الصحافة، فقد أفاجك إن قلت لك إنني بدأت أراسل الصحف ببعض خربشاتي وشخابيطي الأدبية، وأنا في المرحلة الأولى من الثانوي.. وقد ردت علي كتاباتي بعض الصحف. ونشرت لي جريدة "العمل" مقتطفا من قصيد لي، فكدت يومها أن أجن لأن أغلب أفراد العائلة اطلعوا عليه. وتحدثوا طويلًا عن هذا الحدث.. وهو ما شجعني على مواصلة الكتابة، إلي أن أتقنت كتابة المقال. فنشرت لي جرائد عديدة قبل حصولي على البكالوريا، وبعض هذه المقالات نالها حظ كبير؛ إذ اعتمدها الباحث والشاعر الطاهر الهمامي في رسالته الجامعية عن أدب الطليعة.
وفي الجامعة كنت أتنقل بين دور الثقافة ومراكزها، ومقرات الجرائد والمجلات. وقد بدأت أحضر جلسات مجلة "الفكر" التي كان يرأسها الكاتب والباحث محمد مزالي، وقد كان سياسيًا كبيرًا أيضًا، ومسك ثلاث وزارات. وعينه بورقيبة وزيرًا أول في بداية الثمانينيات من القرن الفائت. وكنت أكتب عن هذه التحركات الأدبية. ولاحقت "الطليعة الأدبية" ببعض المقالات والبحوث الصغيرة. وهذه البدايات جعلتني لا أهتم كثيرًا بدروسي في التاريخ. فلم أنجح مرتين في السنة الثالثة؛ أي قبل الحصول على الأستاذية. فالتحقت بجريدة "الصباح" التي قبلتني يوم 12 يونيو/حزيران 1975 صحفيًا ملحقًا بالقسم الثقافي لأن رئيس تحريرها كان مطلعًا على بداياتي، فشهد بأنني يمكن أن أكون كفأً.
وبعد ممارسة الصحافة بثلاث سنوات التحقت بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار دون أن أتخلى عن مكاني في جريدة "الصباح"، وتابعت الدروس الجامعية من جديد.. وإكتسبت خبرات أخرى.. وهو ما شجعني على التمسك بهذه المهنة التي حققت فيها نجاحًا لمسته أنت بنفسك.. وجلبت انتباه أهل الثقافة والادب والفن.
قلت له: نحن المشارقة نقدرك كما يحترمك المثقفون التونسيون فرد قائلًا: أولا اشكرك على هذه الشهادة التي أعتز بها لأنها صدرت عن إعلامي كبير عرفته منذ أكثر من ربع قرن واحترمته وقدرت كل أعماله  ومؤلفاته. لأني لم أكن صحفيا فقط. إنما اخترت لنفسي ان أكون جزءًا من الحياة الثقافية.. فبدات أقوم بتنشبط وإدارة الندوات الثقافية والأدبية. والتحقت بجمعيات ثقافية واجتماعية، وتوليت كتابتها العامة. وتابعت الأنشطة الثقافية في الجهات مقترحًا ومنشطًا وإعلاميًا. وأصبحت ضيفًا على البرامج الثقافية والإعلامية في الإذاعة الوطنية والتلفزة التونسبة. 
كما كنت قريبًا من وزارة الثقافة في الثمانينيات لا سيما وأن الوزير آنذاك كان البشير بن سلامة الذي أحبه كثيرًا، وكان يقدرني بشكل واضح مما أعطاني أكثر من فرصة  لتنشيط  ندوات كبرى. وملتقيات مهمة، ومهرجانات أساسية في حياة تونس الثقافية. ولم اكتف بذلك، بل أنتجت برامج إذاعية، ثم أسست مهرجانًا أدبيًا مهمًا هو مهرجان الأدباء الناشئين الذي حقق نجاحًا منقطع النظير. 
ومن بين عديد من البرامج التليفزيونية التي قام بن رجب بإعدادها وتقديمها يحرص على الإشارة إلى برنامج "صفحات من العمر"، فبفضله التحق بجامعة الدول العربية مديرًا للإعلام بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو" وقد أصبح جل الأدباء والمثقفين العرب النجوم يرحبون بالمرور من شاشته.
وأسأله: ولكن بمَ تفخر من بين ما أنجزت من كتابات؟ يقول: هناك الكثير من الكتابات التي أعتز وأفخر بها، ومنها كتاباتي في مجلات: "شعر"، و"فضاءات مسرحية"، و"الحياة الثقافية"، نشرت بها دراسات وبحوثا جاء ذكر بعضها في أطروحات جامعية الماجستير والدكتوراه.
وافتخر بحوارات كثيرة أجريتها مع شخصيات أدبية شهيرة، ومنها: الرئيس السنغالي الأديب  سيدار سنغور، والشاعر نزار قباني ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وتوفيق فياض، ومحمود درويش، ويحيى يخلف، وأحمد دحبور، وعزالدين المناصرة، وسعدي يوسف، وعبدالرحمان مجيد الربيعي، دون أن أنسى حوارات مع الشخصيات الفكرية والأدبية التونسبة أمثال: الشاذلي القليبي، والبشير بن سلامة، ومحمد العروسي المطوي، ومصطفى الفارسي، وعزالدين المدني، وسمير العيادي، وغيرهم.

وأرغب في معرفة كيف رأى تونس في عهود: بورقيبة، وبن علي، ثم السبسي، وقيس سعيد، فيجيب: أعتز كثيرًا بتاريخ تونس الحديث، وافتخر ببناة الديمقراطية. ولكني أنتقد الزعماء السياسيين كثيرًا لأنني - من طبعي وتكوني - لا أقبل بتضخيم الشخصيات، بل وأرفض الانتماء إليهم؛ فأنا انتمي إلى الأفكار والمشاريع. وبالتالي أرفض المديح الذي يتحول إلى تأليه فيفسد الفكر، ويشوه التاريخ، وينشر المعلومات الخاطئة. وقد يعود ذلك إلى أني  أجمع في ثقافتي بين أضداد كثيرة، فأنا صحفي ثقافي درس التاريخ والإعلام، واهتم بالشأن السياسي الوطني والعربي، وتعمق فيه، وتحرك كثيرًا على أكثر من مستوى، وأكثر من صعيد. 
ويضيف: وقد كتبت في السنوات العشر الأخيرة عشرات المقالات وأعددت كثيرًا من الدراسات عن بورقيبة، ووزيره الأول محمد مزالي، وقد انتقدتهما كثيرًا؛ ولكن بحب، فبورقيبة زعيم مؤسس وشجاع في الإصلاحات، لكنه أخطأ في حق الحرية والديمقراطية، كما أخطأ في حق العروبة، وأثار معارك لم أحبها إطلاقا، فقد كانت بدايات لهزائم العرب. فهناك من يقول إنه نبَّه العرب إلى ما يمكن أن يحدث لهم من هزائم. وأنا أعتبره شريكًا في الهزائم؛ فقد كان مكلفًا بمهمة الترويج للهزاىم العربية. 
أما مزالي فهو مفكر كبير صاحب مشروع ثقافي. وهو مخطط مشروع النهوض بالأمة، ولكن الخونة الذين يرغبون في هزيمة الأمة ودمارها تمكنوا من إبعاده كي لا يرث بورقيبة، وينفذ مشروعه. 
أما الباجي فلا أحبه إطلاقا. وأعرف تاريخه الذي ارتبط بأحداث سوداء في تونس، لم يكن أبدًا بعيدًا عنها؛ فاعلًا ومحركًا، وقد أساء كثيرًا إلى الشعب التونسي. والآن نعيش عهد قيس سعيد.. هذا الرجل النظيف صاحب التاريخ الناصع، ولكنه لا يزال غامضًا. ولم يفهمه أحد إلي الآن. وأصبحت خائفًا علي تونس بسبب رئاسته، لأن هناك من لا يقبل أخطاءه، ومن لا يصبر على غموضه، فقد تقع محاولات لافتكاك السلطة منه، أو قلبه بشكل من الأشكال.
ولكن تونس تعيش اليوم أجمل عهودها في الحرية والديمقراطية.
وعن مشروعه الثقافي المؤجل حتى اليوم يقول: نشر أعمالي التي لم أتمكن من إصدارها في كتاب. وقد تقوم بذلك وزارة الثقافة.
ويضيف: لقد بدأت منذ  ثلاث سنوات كتابة ما عشته من أحداث وما عرفته من شخصيات، وما اطلعت عليه من أسرار لم تكشف إلي حد الآن. واقتربت من وضع النقطة الأخيرة. وقد اخترت له عنوان "صفحات من العمر"، وهو كما تعرف عنوان برنامجي التلفزيوني الأثير.