مع الأبنودي.. كانت لنا أيام

عبدالرحمن الأبنودي يستضيف روح نجيب محفوظ ومحمد رشدي لما لهما في حياته من مواقف رمضانية.
الشاعر الراحل كان يؤكد أن رمضان بالنسبة إليه هو شهر عمل، لا نوم فيه، ولا كسل
عندما زار الأبنودي تونس آخر مرة أصيب بحالة من الخوف وقال لنفسه: أخشى أن يكون هذا هو لقاء الوداع!

جمعتني بالشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودي جلسات وندوات وأمسيات وأسفار إلى ربوع مصر وخارجها. وكانت علاقتي به تسمح بأن أطلب منه استدعاء الكثير من الذكريات التي هي في الحقيقة توثيق لعادات أصيلة في المجتمع المصري، لكنها مع الأسف بدأت تندثر. فكانت جلساتي مع الأبنودي لا تخلو من التعرف على آرائه في أشخاص أو مواقف لها دلالتها البالغة بالنسبة إليه.
واليوم أنشر عليكم تفاصيل واحدة من الجلسات الرمضانية التي جمعتني به في شهر رمضان من عام 2007 . ولن يفوتني أن أسجل أن رفيقتي في هذه الجلسة كانت زميلتي الصحفية أمنية سعيد ابنة الخطاط المعروف سعيد محمود:
الأبنودي.. وليال عشر
يؤكد الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي أن رمضان بالنسبة إليه هو شهر عمل، لا نوم فيه، ولا كسل، فنهاره مذاكرة، وليله لقاء بمعظم طبقات الشعب المصري وضيوفه من الأجانب في بيت السحيمي ليقدم لهم عروض السيرة الهلالية مع راوي السيرة وشاعرها سيد الضوي وفرقته. وهو يعتبر أن هذا من أجمل ما يقوم به في حياته، فهو في هذه الحالة لا يكون الأبنودي الشاعر الذي كتب: "جوابات حراجي القط" أو "وجوه علي الشط" أو "الموت علي الأسفلت"، بل يكون الأبنودي المعجون بالتراث، الغارق في "السيرة الهلالية" التي مكث أكثر من ثلاثين عامًا يقدمها للناس في كل مكان مع شعراء الربابة.
وهو يرصد جمهورًا ثابتًا يعنيه يحرص علي الحضور إلي المكان الذي يقدم فيه السيرة الهلالية في رمضان يستمتع كل ليلة من الليالي العشر من 5 إلي 15 رمضان، ولا يكتفي بليلة واحدة فقط، بل يحرص علي الحضور كل ليلة. وتتسع هذه الاحتفالية الرمضانية لتقديم أغنيات ورقصات جنوبية يؤديها الفنان مبارك مع سيد الضوي وهي التي تقدم في الصعيد في مناسبات: الزواج والسبوع والطهور، ويكون الجمهور في حالة توحد مع هذا الفن المختلف في فضاء القاهرة الإسلامية وعمارتها البديعة.

الأبنودي يدعو إلى مائدته الشاعر محمود درويش الذي يعتبره تجربة شعرية يخطئ من لا يتابعها بعمق فهو كما يقول يتطور تطورا مخيفًا من قصيدة لأخري ولم يغرق في عنكبوتيات الحداثة المبتذلة 

ويبوح لنا الأبنودي بأنه وجد نفس الحميمية في تونس عندما زارها آخر مرة، حتى أنه أصيب بحالة من الخوف وقال لنفسه: أخشى أن يكون هذا هو لقاء الوداع!! 
فقد خرجت البلد عن بكرة أبيها لاستقباله وتحيته والاستماع إلى قصائده وحكاياته.
ويقول: طبعا، فعلاقتي بالتونسة بعيدة منذ كنت أتردد على هذه البلاد لأجمع هذه السيرة الهلالية بصحبة صديقي الطاهر جيجة.
وقد اكتشف الأبنودي أن التونسيين يعرفون عن حياته وأسرته كل صغيرة وكبيرة. ويعترف بأن هذا أسعده جدا. ويذكر لنا أنه بعد عودته من تونس زارته مبعوثة من جامعات النمسا قادمة من فيينا لتبلغه أن يونيو 2008 سيشهد احتفالية كبيرة لتكريمه، ولذلك تجري الآن ترجمة مختارات من قصائده إلى الألمانية، كما تعد دراسات حوله، وستكون هذه الاحتفالية بالتعاون مع الجالية المصرية في النمسا.
وهنا يعلق الأبنودي بلهجة لا تخل من سخرية لاذعة: شوف في النمسا يعدون من الآن لاحتفالية ستقام في منتصف العام القادم، وعندنا تمثيليات رمضان لم تكتمل بعد!!
ثم يعود إلي لهجته الجادة بعد أن يصمت قليلا فيقول: أتصور أن دورة 2004 لمعرض فرانكفورت للكتاب هي صاحبة الفضل في تعريف النمساويين بي، فقد لفت انتباههم في احتفالية العرب ضيف شرف تلك الأمسية التي قدمتها بصحبة ممثل ألماني قام بإلقاء قصائدي المترجمة بشكل اتسم بروعة وفخامة في آن واحد.
وعن كتبه التي في الطريق يقول: أنا مشغول حتى الآن بالصورة التي سيخرج بها ديوان الزجل الكبير الذي يضم هؤلاء الزجالين الذين طويت صفحتهم بقيام الثورة، وصعود شعر العامية الذي قضى علي مدرسة كاملة اسمها مدرسة الزجالين المصريين. 
ويوضح الأبنودي أن الدكتور محمد صابر عرب، رئيس مجلس إدارة هيئة دار الكتب متحمس جدا لإتمام هذا الديوان، فقد زلّل كل الصعاب ليطلع علي كل ما يحتاج إليه من دوريات وصحف ومجلات لإنجاز هذا العمل الضخم.
ويضيف الأبنودي أنه كلما هلّ عليه شهر رمضان¬ وهو يعيش في أحد الأحياء الراقية في القاهرة¬ يتذكر علي الفور الشيخ رفاعي مؤذن المسجد في أبنود، فقد كان بلا صوت في جامع بلا مئذنة، وكان الأطفال يرقبونه باهتمام بالغ، وبمجرد أن يرفع يديه إلى أذنيه يفهمون أنه يقول الله أكبر، وأن المغرب قد حان فيتفرقون كل إلي وجهته وهم ينشدون أغانيهم الصعيدية فيفطر الناس.
ويصف لنا الأبنودي معارك القناوية علي كشك الثلج الوحيد في عز نار جهنم لكي يحصلوا على قطعة ثلج تسهم في صنع مشروب الحلبة البارد الذي لا نعرفه نحن هنا في وجه بحري. مؤكدا أنه لا يزال حتى الآن في رمضان الصعيد وقت أن كان طفلا، ويراه شهر الكرم والتقوي والمحبة في مقابل شهر المسلسلات والمسابقات والاستعراضات هنا في القاهرة، فالتقاليد الرمضانية هناك ظلت كالإرث الذي ينتقل من الأجداد إلى الأحفاد، وكذلك العيد كان أهل الجنوب دائمًا يحسبون له ألف حساب، ولا سيما الكسوة، فلم تكن تصنع طوال السنة إلا لقدوم العيد، وكان الخياط البلدي الوحيد في أبنود يزدحم حانوته بالبشر الذين يحرصون على ارتداء ثوب جديد في صلاة العيد، ومن كثرتهم كان أحيانًا لا يتمكن من الانتهاء من بعضها قبل قدوم العيد، لذا كنا نرى من يحمل قماش جلبابه في العيد إشارة إلى أنه اشتراه ولكن الوقت لم يتسع لتحويله إلى ثوب جديد.
إفطار رمضاني على مائدة الأبنودي
ومن ذكرياتي الرمضانية مع الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي أن بيته كان يضم مائدة تتسع لاثني عشر شخصًا يتحتم عليه دعوتهم لتناول الإفطار معًا في ليلة رمضانية واحدة، إلا أنه وافق على فكرتنا، وقرر علي الفور الاتصال بنبيل غالي، مهندس العمارة الإسلامية الذي صمّم أثاث بيته لاستبدال مائدة طعامه المستديرة بأخرى تتسع لضيوفه جميعًا.
الأبنودي أكد أن بيته مضيفة لكثير من الشعراء ورجال السياسة والفن في العالم العربي، فلا يمكن مثلا أن يأتي الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش إلي مصر إلا ويقيم في دار الأبنودي ويأكل الملوخية بالبط التي يشترك في إعدادها مع زوجته التليفزيونية نهال كمال، في بيت الأبنودي يشد انتباهك الفانوس الرمضاني الكبير والأرائك الشعبية والأكلمة التي أحضر معظمها من تونس، عندما كان يقصدها لجمع مادة السيرة الهلالية. 
 سألناه عن أول المدعوين إلي مائدته فأجاب: 
اعترف أنني أسير في هذه الدنيا بفضل أصدقائي من غير المشهورين، فأنا رجل يجيد الصداقة خارج ما يسمي بالوسط الأدبي. سأترك أول كرسي إلي يميني خاليًا لتجلس عليه روح عم نجيب محفوظ، الذي رحل بين الرمضانين مخلفًا فراغًا كبيرًا في العالم الأدبي كله، فقد كنا نراه في الأربعة أسابيع الرمضانية وقد كانت إحدى متعنا أن نجلس معه ونتذكر أحوال رمضان أيام زمان وفي الأيام المبكرة في حياة مصر الحديثة، وكانت له نفحات صوفية يطمئن إليها الجالس معه فيشرق بداخله حب حقيقي لمحفوظ.
 وماذا ستقول له بعد أن رحل؟
سأقول له: 'والله يا أستاذ لقد أفهمتنا الحياة وعلمتنا كيف نحترم السن ولا نخاف من الشيخوخة بل أن نبدع تحت سقفها حتي آخر لحظة'.

ومن ستجلسه إلي جانب محفوظ؟
صديقي الدكتور علي النويجي، مفكر مصري وطبيب يعمل في دسوق وهو من الذين غاصوا بعمق في الحياة المصرية، وقد عرفته في المعتقل، وهو من أولئك الذين لا يمتهنون الثقافة ليتربحوا منها بل ينفق ما يكسبه عليها، وأنا اعتبر نفسي تلميذًا له رغم أنه، شأن كل العظماء، ينكر هذا.
ويداعبنا الأبنودي قائلًا: أفكر في دعوة الأستاذ هيكل، ولكن هل سيقبل دعوتي؟ وهو الميسور الحال ليجلس بجانب صديقه النويجي الذي زامله في المعتقل. وعلي فكرة هيكل كان دائمًا ما يأتي إلي مجلس الأستاذ نجيب محفوظ، وهو الذي دعاه ليصبح كاتبًا بالأهرام، وقد أسهم في نشر روايات محفوظ بصورة محترمة، ومنها طبعا "أولاد حارتنا" التي هوجم هيكل عليها كثيرًا.
 ومن سيكون في اليسار؟
جمال الغيطاني الذي جمعتني به علاقة قوية منذ قدمت إلي القاهرة وجمعنا أيضًا حب نجيب محفوظ، والغيطاني يكتب في صمت ولا أدري لماذا لا نلتفت لأعماله رغم أنه حاز الكثير من الجوائز وترجمت أعماله.
 ومن سيجاور الغيطاني؟
الفنان فاروق حسني.
معقول؟!!
رمضان شهر التسامح، والخصومة بينهما بها شيء غير موضوعي ففاروق حسني لم يحرق مسرح بني سويف، خلاف الغيطاني مع فاروق حسني فيه مبالغة كبيرة من جانب الغيطاني: الوزير من جانبه على استعداد لتصفية الأجواء، لكن جمال حوّل الأمر إلي ثأر شخصي. ورمضان شهر التسامح رغم أن الغيطاني في موضوع الوزير لن يتسامح. 
 ويحضر الأبنودي من الراحلين صديقه المطرب محمد رشدي، الذي يؤمن بأن أمه أنجبته ليغني قصائده، فيختلف عن غيره من المطربين، ويوضح أن علاقة أسرته برشدي كانت حميمة جدا، وكان هو الصوت الذي يشجي كل ضيوف هذا البيت.
ويدعو إلى مائدته الشاعر محمود درويش الذي يعتبره الأبنودي تجربة شعرية يخطئ من لا يتابعها بعمق فهو كما يقول يتطور تطورا مخيفًا من قصيدة لأخري ولم يغرق في عنكبوتيات الحداثة المبتذلة ويقترب أكثر من احتضان فلسطين التي تبدو كليمونة يعتصرها محمود درويش بقوة رغم وجهه الشمعي الذي لا يعبر في نظر الكثيرين عن شيء لكن هذا ليس إلا عجزا منهم عن الاختراق فهو لا يسفر عما بداخله.
ألن تدعو شاعر الربابة سيد الضوي؟
لو دعوته مع الأفنديات سأظلمه وأظلمهم، فلقد اعتدت الأكل معه ولكن في بيته بقوص، أو في بيت الشيخ الأبنودي حيث كانت أمي فاطمة قنديل تطبخ لنا ونأكل بيدينا العيش الشمسي بالخضار و"اللحمة"، لكنه لن يعرف الأكل بالشوكة والسكينة، لهذا سأعد له مائدة خاصة ليأكل على راحته وبعد أن ننتهي نجلس معًا ليشجينا بسماع السيرة.
يدعو الأبنودي بعد ذلك مندوبًا من أبنود هو منصور الصعيدي ليحكي في البلد عن الأفنديات المحترمين الذين عرفهم الأبنودي في مصر، والصعيدي في الأصل جزار لكن أبنود نطقت على لسانه كما نطقت على لسان الأبنودي قبله فبدأ يكتب أشعارًا لكنها ليست موزونة.
وحتي لا تميل الكفة إلي جانب الفلاحين سيدعو الفنانة آثار الحكيم التي يقول عنها الأبنودي إن لها شخصية نادرة بين الممثلات، وقد أتت في زمن صعب لكن أدوارًا كبيرة تنتظرها في المستقبل.
وسيخصص مقعدًا على المائدة لمهندس العمارة الإسلامية نبيل غالي منفذ بيته ومزينه بالمشربيات والأشعار المحفورة علي الرخام أو الخشب والتي فضل الأبنودي أن تكون للمتنبي والنابغة الذبياني والشيخ الأبنودي والشعراء الشعبيين.
بالطبع ستكون علي المائدة زوجته نهال كمال التي خاضت حربًا مع أهلها لتقترن به. وهو يري أنها لم تأخذ فرصتها التي تستحقها بعد، وهي بطبيعتها لا تحتج ولا تخوض معارك من أجل مكاسب. 
ويعترف بأنها تزوجته لأنه يجيد الطبخ، وقد جعلها الآن أمهر "طباخة"، وهي بالنسبة إليه مكافأة آخر العمر، وقد وهبته: "آية"، و"نور" اللتين سترحبان بالضيوف، ولكنهما لن تجلسا معهم على المائدة .