نشطاء الوسائط الاجتماعية في الجزائر نفير الحقائق والأوهام

تركت السلطة الجزائرية المجال أمام مرددي الأقاويل والثرثرات ليؤثروا بالناس بحجة الحس الوطني والمصلحة العامة.

في غياب إستراتيجية مثمرة وناجعة وفعالة ومعالجة رزينة لداء الإتصال الأعرج الذي تعيشه مؤسسات الدولة الجزائرية من الرئاسة إلى الجيش إلى الوزارات إلى الهيئات الرسيمة وغيرها، يمكن ليس فقط الإستعانة بفضاءات غير تقليدية في التواصل وإيصال ما يتغلغل في قلبها وبداخلها ومن حولها، بل يمكن بث بكل أريحية ما يزعزع اليقين والثقة فيما تفعله، وتغدو الأكاذيب والشائعات والمفتريات والإختلاقات مراجع ومرتكزات تتخذ عليها القرارات وتبنى في رمشة عين مواقف وأفعال تؤدي إلى قلاقل وإضطرابات وتلاعبات وإنقسامات.

ذلك ما تمت ملاحظته بقوة مؤخرا في مواقع التواصل الإجتماعي، حيث ضجت بأخبار متفرقة ومتباينة وغامضة تتعلق بإيقاف ضباط كبار في الأجهزة الأمنية الجزائرية على خلفية تحقيقات كبرى باشرتها الأجهزة المختصة حولهم، وما تلى ذلك من تغيرات مشحونة بأسئلة قلقة والقيل والقال، طالت رؤوس أجهزة الإستخبارات. سالت معلومات كثيفة مشتبكة أشبه بالسيل الجارف، وسقطت الكثير من التحاليل في هوة سحيقة من التضارب والشكوك والشبهات، أفضى إلى ضياع كلي للخيط الرفيع الذي يمكن أن يحيط بالحدث لمن أراد أن يعرف أو يفهم أو يؤول أو يستقصي أو لمجرد المعرفة بالشيء أو عن فضول وكسل. فالأمر لا يتعلق بمؤسسة صغيرة هينة، بل بمؤسسة كبرى لطالما أعتبرت العمود الفقري للبلاد والأخطر أنها مست جهاز الإستخبارات في عمقه وحيويته.

لم يكن هذا ممكنا لولا تساهل النظام والسماح لهذه الأمور أن تقع وتُتجاوز الخطوط الحمراء في شدّ ومدّ مخيف ومربك بين هذا وذاك. وهذه الخطوط الحمراء كما يعرف الكل، إحدى البديهيات التي تقوم عليها الدول والمجتمعات وإلا عمت الفوضى والخراب.

تفاعل النظام مع التسريبات وما تضمنته - مثلما يقول أنبه محلل أو ملاحظ - من منطلق الإرث الذي ما زال جاثما على صدره، الموشح بحسابات ضيقة ظرفية وآنية، ورؤية ترزح تحت مظلة تقليدية عائلية تجذرت في مبناه ومعناه، يعود إليها الفعل والقرار، بل ما زالت تيمة العائلة بكل محمولاتها المقدسة والمحرمة والأبدية تسيج ويلف في مساماتها الحكم والسلطة.

صُنع النظام هكذا، ووظف بقدرة محيرة هذه العلامات بإستمرار وبقداسة مطلقة أحيانا، وأضاف إليها خلطة عجيبة مكونة من عصب وفرق وملل ونحل غير منسجمة يتقوى بعضها ويتصلب لفترات، وتنسحب أخرى لغاية أن تستوي لديها أسباب القوة والتمكن، تظل تتصارع فيما بينها عند كل مفصل تاريخي هام يأتي بالخيرات والنعم لهذا البلد غير أنه يتقهقر ويتمزق بمجرد أن تسطع النوايا الطيبة التي تريد أن تذهب إلى المستقبل.

ولم يكتف النظام بهذا بل لف طبقات حكمه بأذرع إعلامية رسمية وخاصة تنور الرأي العام بمزاياه ومحاسنه، وراهن - ومازال على كل حال - على بضع قوى ومؤثرين تبين فيما بعد أنهم عشعشوا في رحم الفساد والسرقة والنهب وتوالى أندادهم من جديد على نفس المسرح، وكأنه لا يريد أن يتعلم أو يتعظ أو يدرك أن هذا الطريق الذي يسلكه بتورية وخفاء يؤدي مباشرة إلى الإنسداد، ومسالك هشة، وخيوط رفيعة لا يمكن الوقوف عليها أكثر من مرة، ولا الإكتفاء والمراهنة على ديمومة الوقت وربح بضع ثوان وساعات وأيام وسنوات لأن سماوات العالم اليوم مفتوحة على عالم آخر بلا أسرار مكتومة في قلب إثنين، ولا معلومة مرمية في صناديق معولبة ومختومة بالشمع الأحمر، ولا

لسنا ندري هل يتصرف النظام وفق قناعة تامة أو عن معرفة دقيقة بالمآلات والنتائج والتداعيات أو عن جهل وفراغ ودفن الرأس في الرمال حتى تمرالعواصف، أو مثلما يروج له أنه يتصرف بحكمة ذكية وخارقة ماكرة عميقة ونبيهة، يؤسس عليها طرائق قدادا في التخطيط لما هو أبعد من مجرد تسريبات لا قيمة لها تمر وتنسى مع الوقت. غير أن مواصلة هذه السياسة والتي تبين أنها مهزوزة ومغشوشة لا تصمد أمام هجمة وسائل تواصل أخرى أكثر فاعلية تخترق وتصل دون عوائق وحدود، وتمرق كما تمرق الرمية من السهم.

لسنوات شكل 5 أو 6 أنفار ممن يعتبرون أنفسهم معارضين وأصحاب رأي مستقل وصحفيين محققين ومحللين وخبراء في كل شيء، شكلوا وصاغوا وعيا ملتبسا سكن في نفوس وأذهان الكثير من الجزائريين. ميزتهم أنهم فارين من العدالة والقصاص إثر تورطهم في قضايا ما زالت قيد التحقيق ولم تعلق بعد ويفصل فيها. أتخذوا من اليوتوب ووسائط التواصل الإجتماعي جنات وملاذات وملاجئ ومنافي يذيعون منها ما يقولون أنها حقائق وأسرار وخفايا أطلعوا عليها وحدهم دون الخلق أو سربت إليهم أو وقعت بين أيديهم في غفلة عن الأعين والعسس والأمن ومصالح أخرى.

ذئاب منفردة.. كلهم ينهلون من معين واحد. معين الفضائح والتشهير والنهش والتزييف والكذب والنميمة والبهتان والتقول وسفاسف الأمور (كما بينته مؤخرا لايفات بين اثنين كل يعرّض بزوجة الآخر في مشهد أقل ما يقال عنه أنه مخز وبعيدا عن سمو الأخلاق وتقاليد العائلات المحترمة).. وغيرها من الصفات والأوصاف وإن شاب بعض معلوماتهم ودروسهم نتف من الصدق والحقيقة. غدوا كما تقول التقارير الرسمية والبيانات بيادق بين أيدي وجهات ومخابر ودوائر في داخل وخارج الجزائر، تدورهم بين أصابعها كيفما أرادت وشاءت وأنى شاءت.. وإن أختلفت رؤاهم وتوجهاتهم ومقاصد مشغليهم الخفية والظاهرة.

لأكثر من أشهر، تتبعت بشكل دوري هؤلاء لأرى وأسمع وأفهم وأستنتج وأضع نفسي في قلب ما يقدمونه من مواضيع، وأكوّن صورة مركبة أفقيا وعموديا وقريبة منهم، تسمح لعقلي وتتيح له أن يحيط ويستوعب ويجيب عن أسئلة كثيرة حولهم وعنهم، وهي أسئلة من المؤكد أنها تراود البعض ممن يحاولون رصد مكامن قوة وقدرة هؤلاء على تحشيد هذا الكم الهائل من مريدين وتبع.. "غاشي" بلغة الشارع.. دهماء بلغة المثقفين والنخب.. عملاء وخونة بلغة الخصوم.. رجال أحرار بلغة المنحازين إليهم.. فمن هم هؤلاء؟ من يخاطبون؟ ماذا تقول لغتهم وكلامهم وحركاتهم؟ كيف أصبحوا فجأة كالمغناطيس ينجذب الكل إليهم.. إلى فضائهم ومساحاتهم وثرثراتهم. وعندما نقول الكل فنعني بهم الكل من القمة إلى القاعدة.. من الساسة إلى العسكر.. من المتعلم إلى الجاهل.. إلى المواطن البسيط عاملا كان أو بطالا. كلهم تقريبا يصطفون أمام شاشة الهاتف أو اللابتوب ينتظرون لحظة يطلون برؤوسهم، ولمدة ساعات أو دقائق يشدون الإنتباه والعين والأذن كأن ما يقولونه وحي متنزل.. غيث لا تعرف إن كان يهمي بالغث أو السمين، الحلو والمر، "الخرطي" والبهتان، النعيم والجحيم، الترهيب والترغيب، الإشارات والتلميحات، الهف والصدق، رسائل مبطنة ومكشوفة، المهم أنهم أرضوا نفسيات ودواخل مستميعهم المقهورين أو الغاضبين؟ "اللي شارينهم" لبعضهم، للفضولين أو "للفارغين شغل"، أو المهتمين، أو المنتظرين بقلق من المسؤولين أو رجال الأعمال خوفا من أن توضع حياتهم العامة والخاصة على مسطرة الكشف والضوء.

ولد هؤلاء بعد سنوات من الطفرة التي أحدثها النت، وفتح لهم هامش واسع لقول ما يشاؤون، من الممنوع إلى السري إلى المباح إلى أي موضوع مطعم بالتفاهة وغير مهم، تنفذوا فيه دون حدود أو موانع أو جدران، وفي الكثير من الأحيان دون أخلاق أو ذرة ضمير. علاقتهم بالواقع الجزائري متذبدبة وغائبة.. فجلّهم يعيش خارج الديار.. لم تطأ أقدامهم أرض الوطن منذ سنوات عديدة، فهم مطلوبون للعدالة بتهم شتى.. وإن أدعى أحدهم أن الرئيس تبون تواصل معه للعودة إلى البلاد في إطار ما سمي بـ "لمّ الشمل"، ولكنه أحجم عن تلبية الدعوة الكريمة لأنه يدرك تماما أن قضيته لا علاقة لها لا بالسياسة ولا بالمعارضة ولا بحرية الرأي.

يدفع هؤلاء بعنوان "الوطنية" كمنطلقات - ولكل واحد رأي وحجة في فهمها حتى تكاد لما تسمعهم يجادلون بإسمها تشكك في كل من نظر أو سطر للمفهوم معنى ومبنى، أو كتب عليها - وينتابهم الخوف على مصير البلاد من أعداء الداخل والخارج وهو ما يشغل بالهم في نهار وليل الغربة القاسي. فنحن الذين نعيش هنا نجهل حجم المخاطر والبلاوي التي تتربص بنا خاصة من أهلينا وحكامنا وولاة أمورنا، لذلك يعتقد هؤلاء أنهم يخاطبون شعبا خاملا ولا يعرف ذلك فوجب تنبيهه وتقريع حكامه ومسؤوليه وفضحهم وكشف عوراتهم وزلاتهم لمعرفة أسباب الغبن الذي يمر به، والخيرات التي تؤكل غصبا عنه.

لا تجتمع فيهم صفة العمق ولا علاقة لهم بالتحليل أو الإحاطة الجادة والمفيدة بمواضيع محددة، فالمتأمل في أحوال ما يقولوه هؤلاء العباد سيخرج في منتصف البث أو في نهايته لمن له القدرة على مواصلة سمعهم ورؤية سحنتهم المتجهمة والعبوسة، بخليط مبهم ومشوش مبلبل ومتضارب من المعلومات، متنافرة ومتناقضة، مختلقة، ومرات سخيفة، لا تقف على أرض صلبة أو على رأي يمكن وضعه في خانة السداد والحصافة والنباهة والذكاء والصدق، يمعنون في طرح ما يقترب من الهوس خاصة لما يتعلق بالعسكر، فلقد أصر أحدهم لفترات طويلة على أن صورة الضابط الفلاني التي بحوزته تعود لهذا الأخير وظل يعرضها بإستمرار ومع الوقت أتضح أنها لشخص آخر وهو موظف يعمل في مهنة بعيدة تماما عن الجيش.

كل هذا كما يقول بعض المحللين، يعزز الدليل أنهم واقعين تحت سيطرة نرجسية مغالية أوصلتهم إلى حافة العلو حيث لا أحد غيرهم يملكون معرفة ما يحدث في خم النظام حتى ولو كان صانع النظام نفسه، أو هم كالدمى بين يدي قوى ماكرة مخاتلة تدلس بهم الذي تريد في اللحظة المناسبة، وتسرب إليهم ما ترى أنه يخدمها حسب مصلحتها أو مصلحة دوائر ضيقة ينتمون إليها، أو في النهاية هم وحدهم يحاجون ويفكون ويخبطون خبط عشواء.

بينهم قواسم مشتركة، فاللغة التي يستعملونها هي في الغالب الأعم لغة دارجة مفككة، ممهورة مرات بالسباب والشتم واللعن والإسفاف - مثلما حدث مؤخرا حيث بثّ أحد الناشطين ممن يقال أنه القوي المتين بعلاقاته مع فريق مخيف في السلطة الجزائرية، بثّ تسجيل ناري مملوء بكلمات نابية في حق امرأة واعتبر متابعيه ذلك إنتصارا هائلا - رهنوا المستمع العادي الذي هو في أحسن الأحوال شخص بسيط من حيث التكوين والمعرفة، محب لشعبوية التعابير الفضفاضة، والأساليب والألفاظ المستعملة بسوقية وفيض وتفاهة في الشوارع وداخل المقاهي والبيت وأماكن العمل، وهم بهذا هيمنوا بيسر وبساطة على عقول ونفوس وأهواء الملايين المتعطشة إلى من يعوض عنهم النقص الفادح والإحساس الفظيع بالحقرة والتفاوت واللاعدل، ويعبرون بدلهم عن الرغبات المكبوتة في أن يكونوا جريئين على المباشر ومندفعين وفضّاحين ومستهترين حتى ولو كان ثمن ذلك زعزعة القيم والأخلاق والأعراف والتقاليد والمس بشرف العائلات وخصوصيات الناس.

لهم تقريبا نفس الفيزيونوموي والحطة والهندام، وكأن الذي عركهم حرص على تنمطيهم في قالب واحد ليسهل عليه تلبيسهم بالطين ذاته، ومبادلة وتحوير وتحويل أدوارهم ومهماتهم، كي لا يحس المتلقي أن هناك تفاوت بينهم في المستوى والدرجة، وأعتقد أنهم يستعملون نفس العطر، ناهيك أنهم يأكلون بنّهم وغضب، وعندما يمشون في شوارع الغربة يمشون بخطى سريعة، يلتفتون يمينا ويسارا وينظرون بحرص شديد إلى الفوق ومن تحت أرجلهم، غير مطمئنين بتاتا، ولو أن الألسن هنا وهناك تقول أن الأعين الأمنية سواء الجزائرية أو في البلدان التي يقيمون فيها لا تفارقهم، تراقبهم بالأحرى، فهؤلاء بقدرة قادر أصبحوا قاب قوسين من سدرة الشهرة الخطيرة التي قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه وصداه، أعطيت لهم على طبق مستو غير أنه مسموم، فهم - كما يرددون - عبئوا في طريقهم وفرة من الأعداء والشياطين والأشباح والإنس والجن والبن، منتشرين حواليهم، وفي كل مكان، في مناكبه، يكمنون لهم، ويكيدون لهم كيدا، لا يثقون في أي أحد، يتلونون كالحرباء، ويحتل وكرهم الذي يبيتون فيه حيزا كبيرا في حياتهم يكاد هو المكان الوحيد الذي تنبسط فيه راحة منشودة ومفقودة لديهم.

أصبحوا ظواهر متفسخة في حياة المجتمع الجزائري، ليس لأن ما يقدمونه خارق للعادة أو كشاف للمعادن والجواهر، يبهر بالنفيس والغالي، محتكم لأدنى معيار الفهامة والعلم والثقافة والسياسة والتاريخ والمعرفة، بل تمددوا في الفراغات والثقوب التي أحدثها إنسحاب واختفاء النخب في كل المستويات، وإنضمار المجتمع المدني الحقيقي، وتكلس الرموز وغيابها قصرا وعمدا وإختيارا، وكنتيجة لذلك تسطح الوعي وتُفه العقل، وأنمحت روح المبادرات الخلاقة، وأنكمش الخيال، بل عندما تتقصى رأي النخب في هؤلاء سيقولون لك: إنهم تافهون، ورديئون، غير أنهم أول من يحتل المقاعد الأمامية لمشاهداتهم والإستماع إليهم في لقطة مفارقة تكاد تكون تراجيدية وكوميدية.

بالموازاة مع ذلك تطرح أسئلة كثيرة حول حقيقة اللجوء المطمئن إليهم من جهات في الدولة أو في المؤسسات الأمنية أو في حظائر أخرى ممن هم في أدنى المواقع أو في أسفلها، وحتى من أعلى المراتب وأخفضهم في سلم الوظيفة، جيوش في كل مكان.. مدراء.. مناضلين في أحزاب ونقابات وتنظيمات.. سكرتيرات.. ضباط.. جنود.. بطالين.. عمال في مصانع ومزارع.. أساتذة.. طلبة.. بائعات هوى.. حراس مباني هيئات ومقار رسمية وخاصة.. رواد مقاه وملاه ومطاعم.. وقد يكونون في مناصب متقدمة مرتبطة بالدولة وبالإدارة، ومركونين في زوايا معتمة من الفحص والإطلاع، أو بيدهم مفاتيح الأدراج المقفلة على الممنوع والسري للغاية، هؤلاء من يمدونهم ويلقون إليهم بمواد مخفية، ويفتحون لهم الملفات الثقيلة، ويرفعون الغطاء عن الصور الخاصة، ويدخلونهم إلى خصوصيات غرف النوم، ويسمعونهم الكلام الحميمي - هذا إذا أفترضنا أنهم يفعلون ذلك.

المهم كل من يحمل في يديه هاتف نقال بكاميرات فائقة الجودة أو منغمس أمام جهاز اللابتوب، بإمكانه فعل ذلك دون تكلفة أو جهد كبير، وقد حكى لي مستشار سابق أن سيارته الخاصة تم تصويرها من داخل مبنى الرئاسة وأظهرها من يدعي أنه كالجن الأزرق موجود في كل مكان، في السماء في الأرض، في حفرة، في ثكنة.. وبإمكانه أن يصل إلى الغرف والبيوت والإدارات بيسر وسهولة.. ورجح أن هذه الصورة ما كان يمكن أن تصل إلى المعني إلا عن طريق شخص ما داخل المبنى أو في محيطه، ويمكن أن يكون أحد حراس موقف السيارات.

هل لهذا التهافت عليهم من أسباب وجيهة؟ إذا قاربنا أسبابه ونتائجه مقاربة واضحة وبدون خلفيات  أو خوف مثل ما يتم تحذيرنا عندما نريد أن نكتب بحرية عن ما يحدث في البلاد، ورجعنا إلى السياقات المعقدة التي تمخض فيها وعاشها النظام منذ الإستقلال، فالملاحظ أن أطراف بالكامل وإلى الآن، مع كل ما مر بالبلاد من أعطاب ومشاكل وأزمات وشروخ وسقطات، لم تقدر ولا تريد وضع آليات تنطبع بالشفافية في التسيير والتنظيم وتطبيق القانون، أو يجعل من الإختيارات الصائبة للرجال والنساء لتولي المناصب والمسؤوليات سنة حميدة تبتعد مثل ماهو معمول به للآن عن الزبائنية والجهوية والإخوانية والرداءة، ولم تفسح صراعات المصالح وثقل مراكز إتخاذ القرار بين كتل صغيرة مبهمة في الكثير من الأحيان، المجال لحرية انبثاق مثل هذه الأمور، بل أقصيت الإرادات الحقة، ومسخت النوايا الطيبة والحسنة للإطارات الكوفئة والتنظيمات القوية وغيرها، وزاد أصحاب الأمر والنهي من طلسمات وتعقيد مخرجات آمنة للإحتقان الذي يفخخ سدة الحكم، لذلك عمد بعض من يملك السلطة إلى إستقطاب هؤلاء للتأثير وترويج ما يخدم عصبا وشخوصا لا ترى بالعين المجردة، ضيقة ومغلقة على بعضها، أشباحا، ووجوه غائبة دوما وحاضرة من الغيب والظلال وخلفيات غير مرئية ومنعطفات مظلمة لا يصل إليهم الضوء ولا ينعكس عليهم، ولا تدنو منهم عدسات الكاميرا، هنا وهناك موجودين بالإسم والصفة، عسكر وساسة ومستشارين ومدراء، ومتنفذين بالمال والسيطرة والقوة والعلاقات المشتبكة، نسجوا خيوطها بدقة متناهية ومتانة لا تقطع بسهولة. وسواء أكان ما يرمونه لهؤلاء حقيقيا أو مزيفا أو مغشوشا أو خاطئا أو مفبركا أو بعض فتات للإلهاء، إلا أن اللعبة غدت أكبر وأشق وأصعب وأخطر خاصة لما يتم الإخلال بالسير الأمثل للمصالح الأمنية مثلما يُفعل الآن حيث تقذف الأسرار ككرة الثلج بين فريق وفريق، وتكشف للعيان ويلتقطها هؤلاء ليبثوها دون عناء وتفكير وتدقيق مثلما يفعل أي صحفي محترف أو كاتب متمرس، ويعتبرونها سبق وخبطة إستثنائية سيحققون من خلالها التفرد وحتى البطولة والفخر ليشار إليهم بالبنان: كاشفوا ما خفي وما استتر.

يؤدي هؤلاء أدوارا تترنح بين الأوهام والحقائق، مقتنعين أن الجمهور العريض الذي يتابع يوميا الـ show الذي يقدمونه بحاجة قصوى لهم، وكلما زودوه بما يعتقدون أنه ملفات وأسرار مطمورة ومستترة في القلوب والعقول وإختراقات في أعلى مستويات الدولة، زادت أدوارهم وكبرت وتعاظمت حتى وصلوا إلى مطلق اليقين أنهم وحدهم من حفروا وحققوا وتعبوا وشقوا المجاهيل والغبار من أجل أن تروى وتحكى من لدنهم.. والظاهر أن الكثير من هذه الأدوار هي جزء من متاهة كبيرة خلقها النظام في مربعه بكل عيوبه وفضائله، وقد تنقلب عليه، وقد تؤدي بهؤلاء النشطاء ليس فقط إلى الغرور وجنون العظمة وحسب بل قد تنحرف بهم وتحتويهم وتلقي بهم في أتون النسيان أو الصمت أو الموت.