نوستالجيا الشعر

الحنين موضوع أثير في الأدب العربي قديمه وحديثه؛ اغتنى مفهومه قديما بالحديث عن الحنين إلى الأوطان.
إستدعاء نصين من النصوص المنشورة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)
للمنظور التاريخي فاعلية قوية في رصد حالة النوستالجيا الإبداعية

الحنين شعرا ونثرا، موضوع أثير في الأدب العربي قديمه وحديثه؛ اغتنى مفهومه قديما بالحديث عن الحنين إلى الأوطان، واتخذه آباء الشعر مفتتحا لقصائدهم يبثون عبره لواعج الحب والذكرى (قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل ...). وامتد الاهتمام بشعرية الحنين في الأدب الحديث والمعاصر غير أن مفهوم الحنين زاحمه مصطلح آخر استعاره الأدباء في العصر الحديث من الطب النفسي؛ أعني مصطلح "نوستالجيا" بحمولته الثقافية من التراث اليوناني فجاء دالا على ذكرى تحمل إحساسا ما بالسعادة اقتنصتها الذاكرة، وهذا الصيد - صيد الذاكرة - وإن عبر عن شعور جميل، فقد خالطه نوع من الإحساس بالألم أو الاغتراب أو أبان عن حجب كثيرة تحول بين المرء وذكرياته.
 تبدو المسافة الفاصلة بين الإحساس بالسعادة والإحساس بالألم مرهونة بالذاكرة؛ فالذاكرة وحدها قادرة على ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وعليها تعوّل فاعلية المنظور التاريخي في الرصد، ونقطة البدء في الرصد قد تكشف عن رغبة صاحبها في البقاء في عالم الماضي أو تجاوز الماضي أو التطلع لما هو آت في المستقبل. ووعي الذات بخطر الأزمنة هو الذي يثير آماله وآلامه، وهو يلتقط صوره من كاميرا الذاكرة.
يبدو أننا نعوّل كثيرا على الذاكرة الفردية في رصد حالة النوستالجيا الأدبية، وهذا صحيح في المجمل، ولكن الذاكرة الفردية في إبداعنا المعاصر تمارس فاعليتها في عالم تتطور فيه التكنولوجيا بشكل متزايد يواكب الزمن الذي صار يقاس بالفيمتوثانية، وليس بالليل الطويل الذي لا ينجلي أو ما شابه. 
لقد أتاحت التكنولوجيا ما يطلق عليه الآن بـــ "الذاكرة التوثيقية"، وهو توثيق يمكن أن يؤرشف عالما كاملا بكل ما فيه من علاقات على هيئة صور أو فيديوهات ...إلخ. وحتى ننطلق من مستوى التجريد إلى مستوى التفسير دعونا نشير إلى ظاهرة ارتباط النص الشعري المعاصر بالصورة الفوتوغرافية، وأخص القصائد المبثوثة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي صور تستدعى من الذاكرة التوثيقية لترتبط بالنص وتشكل جزءا من أجزائه، وهو ما جعلنا ننعته بالنص الشعري وليست القصيدة الشعرية. 

مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت لنا تجارب إبداعية يمكن أن تعيينا على قراءة لذوات حالمة حتى وإن كانت تنطق عبارات تعبر عن حنين ولّى ولن يعود

نريد أن نقول أخيرا إنّ تداخل الذاكرة الفردية بغيرها من أشكال الذاكرة قد تجعل من (النوستالجيا) حالة تتجاوز كثيرا فكرة الرواسب المختزنة في الذات. 
تستدعي النصوص الأدبية المعاصرة شعرا ونثرا حالة النوستالجيا، وهي بالضرورة تتفاوت في مستوى القيمة، وقد كثرت عناوين القصائد والقصص القصيرة والروايات المعبرة عن هذه الحالة. وتأتي في شكلين: إما مقيدة أو مطلقة، وتقييدها يكون بتحديد الحالة في العنوان أو ما يسمى بعتبة النص، وإطلاقها يكون في تركها حالة عامة. 
وقد آثرت في هذا المقال أن أستدعي نصين من النصوص المنشورة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) يجمع بين النصين، إنهما لشاعرين أكاديميين أحدهما من أساتذة علم النفس والآخر من أساتذة الأدب العربي القديم، ويعملان معا في كلية الآداب بجامعة الزقازيق. ويفترق النصان في كون الأول كتب بالفصحى، واستدعى المصطلح الجديد (نوستالجيا)، والآخر كتب بالعامية وأعاد المصطلح التراثي في جزء من عنوانه (الحنين). 
نشر الشاعر المصري المعاصر الدكتور محمد أبوالخير في صفحته الشخصية قصيدة  "نوستالجيا"، يقول فيها:                                   
يعاودني الحنين / لأضغط مراراً 
على فوهةِ عطرٍ قديم / يخجلُ أن يفوحَ وأنت بخاطري     
 أو يُعبر عن نفسه - إلا قليلاً - في غيابك
 بدفقةٍ من شوقٍ دفين 
يأخذني الحنين 
لبقايا عطرٍ في يديكِ / رافقني طويلاً / لم يترك يدي 
كطفلٍ تعلق بأمه عند الرحيل 
 أحن إليكِ
فيغزوني عطرك هادئاً /   كأنفاسِ الرياحين
مياساً  كغصن زيتون /  شامخاً في كبرياء الفاتحين
وكأن الربَ أراد أن يتفجر عطرك
في ذاكرة الروضِ غروراً /  لرائحة التفاح
 ونقاء لأنفاس الياسمين
 وكأن الرب أراد أن يتبرعم عطرك 
في  شجر الليل / ذكرى في نفوس الحالمين     
أحن إلى عطرٍ 
يسكن فوديكِ / حتى تأتى 
أو يأتي معكِ /  عطر اليقين 
يقنعني عطرك 
أن حبكِ فواحاً / كأوراق الزعتر 
مختبئاَ في كتب الترائب والخصوبة 
ترتل شذاه قلوب العاشقين ...
ارتضى الشاعر الدال "نوستالجيا" عنوانا مطلقا للتعبير عن تجربته الشعورية، وهو من الأسطر الشعرية الأولى يحدد حنينه إلى (فوهة عطر)، وهو تحديد لا يقيد شيئا؛ لأن الشاعر ينتظر العطر الذي يأتي (عطر اليقين). وقد يبدو لطيفا الإشارة إلى انتشار مفردات الحنين التي تأتي اسما مرتين وفعلا مضارعا مرتين تأكيدا لحضور حالة النوستالجيا، أو بعبارة أخرى دالة على أن ما يشغل الشاعر الحالة الراهنة، وليس حالة الماضي. وسيكون (العطر) هو التجسيد لحالة الحنين، وهو تجسيد موروث استعاد فيه الأسلاف عن طريق حاسة الشم (صبا نجد) وهي ريح طيبة ذكية، وألف من بعدهم أن يربطوا بين صبا نجد والعطر، كما هو في عنوان كتاب الكوكباني "عطر نسيم الصبا". 
تقيم القصيدة ثنائية بين العطر الذي يتصف بالقدم، وهو عطر ملموس حقيقة له آثار دالة على يد العاشق. وبين عطر ينشده الشاعر (عطر اليقين)، وهو عطر غير متعين. إن الذات الشاعرة هنا، وأود أن أتبنى هنا تعريف مصطفى سويف للذات "بوصفها مركز إسناد الخصال والأفعال والقيم في الهوية" تعيش حالة النوستالجيا من منظور الحاضر الذي لم يغب أبدا، وعبرت عنه كلمات نحو (وأنت بخاطري / لم يترك يدي) ليواجه هذا الإحساس الطارئ بالفقد (العطر القديم = كطفل تعلق بأمه عند الرحيل) ليؤكد أثره الحسي على يديه. 
وهنا تعزز الذات نفسها بإسناد مجموعة من الأفعال تعمل على تعيين العطر المنشود غير الملموس (عطر اليقين)؛ لتنتقل به من الحالة التشبيهية الأولى المعبرة عن الفقد  إلى صور تشبيهية تعبر عن حالة من الأمن والاستقرار والسكينة؛ بل وتحدد ماهية الحب (كأنفاس الرياحين، كغصن زيتون، كأوراق الزعتر). ويضيف الشاعر حزمة أخرى من الاستعارات يكون العطر فيها قادرا على العطاء دون الوقوع في حالة النوستالجيا؛ لأنه قادر على الطرح المستمر (يتبرعم عطرك) وقادر على الإقناع (يقنعني عطرك)، وقادر على الحضور في كل الحالات (يتفجر عطرك، يغزوني عطرك هادئا). وهو ما يجعل من عطر اليقين المنشود خصبا فواحا يرتل آيات المحبة في قلوب العاشقين.

أمّا النص الثاني الذي نقدم له في هذه المقالة فهو قصيدة "يِمْكِن حَنِين لِزَمَان!!" ?للشاعر الدكتور محمود عبدالحفيظ عبدالعزيز، يقول فيها: 
يا خَطِّ سِير
قَبْلِ النِّهاية بخَطوتين عَلَى بَختى انا تغَيَّر
الدُّنيا راجعة بضَهرَها
وَلَّا دَلِيلِى ف سِكِّتِى تحَيَّر؟؟
(بَلَدِ الحَبَايِب عَلَى بُعدِ السَّفَر جَنَّة
 بَلَدِ الحَبَايِب فى قَلْبِى الفَرضِ والسُّنَّة)
يا قَطر بيقول توووووت
هُوَّ انتَ رايح/ وَلَّا جاي؟؟
قِدمِت فى جيبى التَّذكَرَة/ طَب يَعنى اسافر إزَّاي؟؟
بَلَدِ الحَبَايِب خاصمِتَكْ/ وَلَّا مِخاصِمْها؟؟
الدُّنيا راجعة بضَهرَها بتَسأل عَوَاصِمْها
وانا باسألَكْ
بَلَدِ الحَبَايِب لِسَّه عايشة / هِيَّ ليه بِتموت؟!!
أنا كُلِّ يوم باشتاق
أنا كُنت واخد المسألة استِفتاء
بِتحِبِّنِى/وباحِبَّها
خَلًّيتها ليه انتِخابات؟؟
الدُّنيا راجعة بضَهرَها
ألِفٌ ألِف
بعد الألِف باء تاء
طَب ليه بَقَى ساعى البَرِيد
والشمس طالعة بيَحرَقِ الجَوابات؟؟
ساعى البريد قال انا اعمل ايه؟؟
(النَّصِّ) مُختَلَفِين عليه / مِتجَمَّعين حَوَاليه
خايفين عليه مِنْ (هيئة الإفتاء)
تعلن قرار
بالفَرق بين (قَرنِ الغَزَال) و(سُؤال)
صَرخِة وَجَع وسكوت
الشِّعر والنَّبُّوت
عِلاوات مَعاش وموائد الرحمن
الدُّنيا راجعة بضَهرَها
يِمْكِن حَنِين لِزَمَان
أيَّام ما كان / إنسان يِحِسِّ بحُرقِةِ الإنسان
ما يتَوِّهوش/ تَلاتين خَرِيف وَشِتاء
فى مُراجعةِ الحسابات!!
 تبدو القيم الإيجابية الفاعلة التي تسندها الذات الشاعرة إلى نفسها أكثر في الماضي حيث كانت (بلد الحبايب) وعبر عنها بقوله: (بِتحِبِّنِى/وباحِبَّها)؛ لذلك كان التمثيل الذهني لصورتها بوصفها (جنة) وبوصفها المقدس (الفرض والسنة)؛ ويكون الدور الوظيفي للذات مع الحنين لزمان (أيَّام ما كان / إنسان يِحِسِّ بحُرقِةِ الإنسان).  وتدرك الذات أن فاعليتها لا تكون إلا في هذا الإطار. أما الحاضر فقد فقدت الذات منظورها الوظيفي لصالح قوى أخرى؛ قد تكون دورة الزمان والمكان (قَبْلِ النِّهاية بخَطوتين عَلَى بَختى انا تغَيَّر). أو الإحساس بالبين من التواصل مع الذوات الأخرى/ الأجيال الأخرى في تفسير القيم والخصال التي يجب أن تتمتع بها الذات، وعبر عنها بساعي البريد: 
طَب ليه بَقَى ساعى البَرِيد / 
والشمس طالعة بيَحرَقِ الجَوابات؟؟
ساعى البريد قال انا اعمل ايه؟؟/ (النَّصِّ) مُختَلَفِين عليه.
نستطيع أن نقول إجمالا إنّ للمنظور التاريخي فاعلية قوية في رصد حالة النوستالجيا الإبداعية، وأن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت لنا تجارب إبداعية يمكن أن تعيينا على قراءة لذوات حالمة حتى وإن كانت تنطق عبارات تعبر عن حنين ولّى ولن يعود.