هم يراجعون ونحن نتراجع

المشكلة الأكبر اليوم هي ليست التخلف والتراجع المعرفي في عالمنا العربي، بل حالة الفراغ الفكري السائدة.

عاشت الأمة العربية على شعارات كانت يوما إشعاعا فكريا وعقائديا لشرائح سياسية كثيرة في مجتمعاتنا العربية، فكانت النهضة القومية شعارا وممارسة طاغية على فكر وممارسة الأحزاب القومية والتقدمية، لكن سرعان ما فقدت هذه الأحزاب السلطوية الحاكمة بريقها، وتحوّلت إلى أنظمة تبرر ممارساتها غير الطبيعية ضد شعوبها، فغاصت في الفساد والبيروقراطية،وضيّقت الخناق على معارضيها، فسقطت شعاراتها في الوحدة العربية وذبلت رسالتها المفترض أن تكون خالدة، فتقاعدت الأحزاب وأنظمتها وحتى الدوائر الضيقة المسيرة لها عن عملها، فنشأت على أنقضاها الفكرية والعملية عقائد وإيديولوجيات اشد سوءاً في الممارسة، فدمّرت الأنظمة والسلطات تحت راية الدين، وباسمه استبيحت المحظورات، وبات المذهب الحاكم الفعلي للسلوك السلطوي في غير مجتمع عربي، فتبخرت المبادئ والشعارات، وحلَّ محلها الاحتراب والتنازع، وبات الآمر الناهي حثالات البشر من متطرفين إرهابيين قبضوا على مقدرات الأمم والشعوب، وعاثوا في الأرض فسادا باسم الدين والمذهب.. هذه هي صورة العرب في القرن الحادي والعشرين، فما العمل؟

طبعا ليست سابقة أن تمر أمة بهذا السوء من التاريخ، فثمة أمم وشعوب سادت ثم بادت، لكن لم يسبق العرب أي أمة تدهورت بهذا الشكل المريع، ربما السبب الأبرز لذلك، بقاء تمسّكنا بالأمجاد الغابرة التي لا دخل لنا بها، وربما السبب الآخر يكمن بقصر النظر لعدم التعلم من تجارب الغير حتى ولو كانت منَّا وفينا.

فالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية السائدة عالميا، وهي بالمناسبة تعبير عن التطور العلمي والتكنولوجي السائد، ساعد الكثير من المجتمعات والنظم الغربية، وتمكنت من تجاوز الكثير من مشاكلها ببساطة وسهولة، فيما نحن العرب أخذنا منها ما يلهينا ويرجعنا إلى الوراء، كمواقع التواصل الاجتماعي التي تأخذ من المواطن العربي الكثير الكثير من وقته، حتى باتت تلهيه عن أبسط واجباته حتى تجاه نفسه، ماذا يعني ذلك؟ أقل ما يقال في ذلك، أخذ في القشور وترك الجوهر والمضمون، وهنا يكمن سر تراجعنا نحن العرب.

بالتأكيد إن العرب بحاجة اليوم إلى إعادة إنتاج فكري متجدد ومتنور، يعيد لهذه الشعوب والمجتمعات بريقها، وأمثلتها كثيرة في التاريخ عندما تمدد العرب والمسلمون إلى غير مكان من العالم، بفضل علمهم وفكرهم المتنور، لا بفضل عضلاتهم وزندهم. نقلوا العلم إلى الغير فأيقظوا أوروبا من عصور الظلام، لكنهم دخلوا فيها، بعدما تخلوا عن العلم وغاصوا في أتون الأديان والمذاهب كما سبقهم إليها الأوروبيون أنفسهم.

لقد أشبع الإنسان العربي كماً هائلاً من المعتقدات الفكرية والعقائدية من شتى المشارب الإيديولوجية، لكن لم يكن أيا منها يشير لا من قريب أو من بعيد إلى حقه في التطوير المجتمعي، الذي بات حقا من حقوق الإنسان البديهية، بل خضع في كثير من حياته المعاشة إلى صنوف شتى من وسائل القهر الفكري والسلوكي، حتى بات محصناً مذهبياً وعقليا وسلوكيا في أطر متطرفة،يعيد إنتاج التطرف والقهر على الغير ولو بوسائل غير إدراكية.

والمؤسف المدمي، أن مجتمعاتنا العربية ونظمها، تسبح اليوم في بحر من الفراغ، لا أفق واضحا له يلوح في الأفق، بل تدور في دوامة العنف والقتل والجهل، دون بريق أمل في حل يخرجها من ظلمات العصور الوسطى.

العرب مطالبون اليوم، بإعادة تموضع فكري، أقله سلوك علمي يعيد للعقل فاعليته المفترضة، ويعيد إنتاج شبكة أمان اجتماعي اقتصادي، متوّجٌ بمبدأ المواطنة في مجتمعه ونظامه السياسي الكفيل وحده، بإعادة إنتاج الإنسان والمجتمع على قواعد ثابتة، تعيد ثقته بنفسه ودوره كإنسان من واجبه تطوير وضعه حتى قبل مطالبته بحقه.

ثمة دول صغيرة بحجمها وإمكاناتها المتواضعة، تمكّنت من إعادة إنتاج نظم ووسائل عيش مجتمعية، وبفترات قياسية من الزمن، كل ذلك، بفضل نقل الانتماء إلى المواطنة، بدل الانتماء إلى عقائد وشعارات لا يستوي تطبيقها في ظل غياب النظم السياسية الاجتماعية الاقتصادية القادرة على استيعاب وحل مشاكل أبنائها. وبعد كل ذلك هل للعرب قدرة على إعادة صياغة وإنتاج بيئة مجتمعية سياسية، تعيد لهم رسالة حلموا بها؟ّ! سؤال يتطلب الكثير من الجهد المجتمعي المتواصل لإدراكه فعلا!