بعد رحيل الباجي قايد السبسي... ليس رئيسا كل من شاء

لعل أهم ما سيسجل من إرث سياسي للرئيس التونسي الراحل هو كيف للمواطن أو السياسي أن يكون مسؤولا.

برحيله عن عالمنا، يرفع الرئيس الباجي قايد السبسي سقف التطلعات عاليا أمام الكثير من المتطلعين والمتسلقين للفوز بمنصب رئاسة الجمهورية، بل ولا شك أن في تلك الجنازة التاريخية المهيبة التي ودع معها التونسيون رئيسهم بمشاركة مختلف دول العالم ما يفترض من المتدافعين المتطلعين لكسب أصوات الناخبين التونسيين لمراجعة حساباتهم واعادة رسم أولوياتهم، ولكن وهذا الاهم للوقوف على قدراتهم وطاقاتهم وكفاءاتهم بكل ما يعنيه ذلك من كفاءة علمية وقدرة خطابية وسعة اطلاع وقدرة على التسيير وجمع صفوف التونسيين في الاختبارات الحاسمة والازمات وفي المحن والماسي قبل أن يكون ذلك في الاوقات والظروف العادية.

لسنا بصدد تقديس الرجل وقد غادرنا مخلفا ارثا يناهز نحو ستة عقود من العمل السياسي والديبلوماسي محليا ودوليا، ونترك للتاريخ أن يقيم انجازاته ودوره منذ عودته الى الساحة السياسية بعد ثورة 2011 ليساهم في تجنيب البلاد المجهول ويدفع بتونس الى بر الامان أو هذا على الاقل ما يبدو للعيان. ولكن الحقيقة أننا ازاء واقع فرضه الباجي قايد السبسي الانسان والسياسي المحنك وهو الذي كان قادرا على الاستئثار باهتمام التونسيين كلما خرج متحدثا في وسائل الاعلام واستطاع أن يعيد التوازن المفقود الى المشهد السياسي في البلاد ويضع حدا لتمدد الاسلام السياسي وهيمنة حركة النهضة وقياداتها سواء العائدين من المنافي او السجون وتطلعاتهم الى تغيير النمط الاجتماعي في تونس.

لم يكن الباجي قايد السبسي ملاكا وبرغم صلاحياته المحدودة وفق دستور 2014 فقد كان له حضوره في مختلف المحافل الوطنية والاقليمية والدولية واستطاع بفضل تجربته السياسية أن يفرض صورة تونس في الخارج وأن يعيد للبلاد البعض من هيبة الدولة المهتزة ويصحح صورة الديبلوماسية التونسية التي عبثت بها رياح المراهقة السياسية.و مهما اختلفنا او اتفقنا معه فقد وجب الاعتراف انه في عهده حازت تونس على جائزة نوبل للسلام احتراما لجهود الرباعي الراعي للحوار. ولاشك أن ما رافق تأبين الرئيس الراحل من شهادات واعترافات دولية من شخصيات واكبت مراسم توديع أول رئيس تونسي منتخب من الشعب أعادت الى المشهد جملة من الحقائق التي لا يمكن تغييبها مهما كانت حجم الاختلافات مع الرئيس الراحل وأولها المكانة التي يحظى بها بناة دولة الاستقلال الذين اسسوا لقيم ومبادئ الجمهورية منذ 25 يوليو 1957. ولاشك أن انطباعا ساد لدى الكثير من التونسيين من مختلف الاوساط الاجتماعية في وداع الرئيس الباجي قايد السبسي أن الراحل انتصر في جنازته للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وللارث البورقيبي الذي منحه فرصة العودة الى المشهد السياسي في تونس في ظل فراغ مشين.

قد يكون القدر شاء أيضا أن ينتصر للباجي قايد السبسي الذي لبى داعي ربه بالتزامن مع الذكرى الثانية والستين لعيد الجمهورية بما سيسجل حضوره في اذهان الاجيال المتعاقبة كلما حلت ذكرى الاستقلال تماما كما هو الحال بالنسبة لشهيد الجمهورية محمد البراهمي. نقول هذا الكلام ونتطلع الى ما سيفرزه اليوم اجتماع الهيئة المكلفة بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والجمهورية وما سيتلوها من تنافس بين المترشحين للفوز بالتزكيات من النواب أومن المواطنين. ولاشك أن موعد ثاني انتخابات رئاسية مباشرة بعد الثورة في سبتمبر القادم سيكون حاسما. والارجح أن الناخب وبعد كل ما أظهره الشارع التونسي من وعي واصرار على التحلي بثقافة المواطنة وتمسكه باعلاء شان الراية الوطنية واعلاء شان دولة القانون والمؤسسات منذ اللحظات الاولى لوفاة الرئيس الباجي قليد السبسي، ما سيجعل مسؤولية الناخب في تحديد خياراته أعقد من أي وقت مضى بما يعني أن مسؤوليته ستكون مسؤولية مضاعفة في اختياره للافضل وللاكثر قدرة على خدمة البلاد وشعبها خلال الاهتبار القادم.

قد يكون منصب رئيس الجمهورية مقيدا في صلاحياته وفق دستور 2014 ومع ذلك فان لمنصب الرئيس قائد القوات المسلحة والمسؤول الاول عن الديبلوماسية التونسية والعلاقات مع مختلف مكونات المشهد السياسي في العالم سواء تعلق الامر بالدول او المنظمات الاقليمية والدولية يجعل هذا المنصب الاهم على الاطلاق وفيه تجتمع كل شروط ارتقاء تونس الى صفوف الدول الراقية... وهو ما نجح فيه الرئيس الباجي قايد السبسي في مناسبات عديدة ومواعيد دولية كبرى كانت تونس فيها محل احترام وتبجيل من العالم.

لا خلاف ان الرئيس محمد الناصر سيكون أمام اختبار لا يستهان به خلال المدة الانتقالية التي سيتولى خلالها تحمل مسؤولية رئاسة التونسيين، رغم ضبابية المشهد استطاعت تونس تجنب الأسوأ بعد وفاة رئيسها وتم انتقال السلطة دون تعقيدات تذكر رغم انه كان بالامكان حصول اعتراضات على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين. ومع ذلك فقد وجب الاشارة أن تونس ليست ازاء انتهاء الازمات والارجح أن الرئيس محمد الناصر الذي أصر على التذكير وهو يؤبن رفيقه الباجي قايد السبسي أنه سليل المدرسة البورقيبية، يدرك جيدا حجم التحديات القادمة لن يكون أقل مما فات وأنه قد يجد نفسه قريبا في مواجهة ضغوطات لاعادة النظر في قانون الانتخابات المعدل الذي رفض الراحل توقيعه.

لسنا نقرأ الغيب ولكن قادم الايام قد تكشف عن مفاجآت غير متوقعة من النخب السياسية عندما يبدأ سباق الترشحات للفوز بكرسي قرطاج وما سيفرزه من حسابات أو تحالفات وصفقات في سوق المزادات الانتخابية ولعبة المصالح بين الاطراف المتنفذة وأصحاب المال والنفوذ الاعلامي الموالية لها. بما يعني أنه سيكون لزاما على الناخب التونسي أن يتعاطى مع الانتخابات الرئاسية القادمة بدرجة من اليقظة والمسؤولية والوعي في اختيار رئيسه ليكون في حجم المسؤولية وفي قيمة ما تتطلع اليه البلاد في المرحلة القادمة.

نعم كان للباجي قايد السبسي اخطاؤه وكان له مواقفه وسياساته وتوجهاته التي قد لا نتفق معه فيها، ولكن كان له رؤية واضحة وقدرة على مواجهة المحن وجمع صفوف التونسيين في الاوقات العصيبة وكان اذا خاطب التونسيين حظي باحترامهم مهما اختلفوا معه وهو السياسي والمثقف والخطيب الموسوعي.

لا نريد استباق الاحداث ونتوقع أن يسعى محمد الناصر الرئيس الحالي الى الا يخيب امل التونسيين وان يكون في مستوى العهدة والمسؤولية التي الت اليه خلال الاشهر التي تسبق الانتخابات الرئاسية بما يفرض جديا أن يكون السباق الانتخابي الرئاسي القادم سباقا للتنافس الجدي بين الاكثرالتحاما بهذا الوطن والاكثر استعدادا وقدرة على خدمة هذا الشعب ورفع رايته...لذلك نقول سيتعين على الحالمين بكرسي قرطاج أن يستوعبوا الدرس جيدا وينتبهوا لكل الاسباب التي جعلت الشارع التونسي يمنح الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي موعدا مع التاريخ ويودعه الى مثواه الاخير بكل مشاعر الاحترام المستحق والوفاء والاعتراف بالجميل رغم كل الاخطاء والاهتزازات التي رافقت ما حدث في حزب نداء تونس.

ليس رئيسا كل من شاء n est pas president qui veut فلا تستهينوا بالناخب التونسي وبحقه في ان يكون له رئيس بحجم الوطن وبحجم تضحيات الشهداء وبحجم احلام شعبه في الحياة وفي الحفاظ وتحصين قيم ومبادئ الجمهورية وتعزيزها...خلال اقل من شهرين ستكون تونس على موعد مع الانتخابات الرئاسية للحسم في تخمة الترشحات والبحث عن عصفور نادر أو صقر كاسر يجعل تونس تاجا على الرؤوس.