ميسون علم الدين والارتقاء في مستوى المقاييس الذهنية
لم تكن ميسون ترغب الذهاب ضوءًا، فهي تدرك تمامًا أن أية محاولة اقتراب من أي ضوء كان، ومهما كانت درجة سطوعه، سيكون الثمن موجعًا. فروحها روح فراشة. وفي استهلال الحديث، وقبل تحقيق أي حضور إبداعي لعملها، تلجأ ميسون إلى خلق شكل من التوازي الذاتي مع العمل المنجز، بل تكاد تكون الجزء الفاعل في العمل؛ فهي حاضرة على امتداد كل مسافات هذا العمل، وعلاقاتها تحتفي بالآخر، بعيدة عن كل دلالات التمثيل التي تحاكي تلك الدوافع الأساسية التي تعزز لديها فكرة تعددية تشغيل مفهوم البحث، دون إلى تلك التحولات التي سترافق تجربتها فيما بعد. فميسون تعيش الفن وتتنفسه، واللوحة هي أكثر من مرآة لتعكس ما بدواخلها، كما هي مرآة العمل ذاته. فهي تنبض بكل تفاصيل العمل على امتداد عملية الإنتاج، ولهذا هي تستعين بمقولات معيارية، التي منها تُولَّد مفرداتها الفنية، تلك المفردات التي ستؤسس لمشروعها الفني الجمالي القائم على ثنائية الفن في إطاره المصطلحي الخارج من دوائر دينامية، فيها ستجد ميسون كل بنيان صياغاتها الجديدة، وبين محاكاتها لهذا الفن بملامحه الدقيقة، والمستمدة من استجاباتها عبر إيجابيتها في المواجهة. وهي تدرك جيدًا بأن محاولات التجلي بالمضي في اتجاهات مؤثرة هي التي تمنحها منزلة قد تعود فيما بعد إلى ترتيب صياغة مفرداتها، وهي ما تزال تتواصل مع الأفق بازدهار حنيني يشعرك ببيئة لا يمكن إغلاق نوافذها.
ولهذا، للعالم الخارجي لديها نبض خاص في جعل الأخضر غازيًا لكل أعمالها السابقة. ولهذا، في عملها الذي بين أيدينا، تترك الأخضر بعيدًا، وهي من الحالات النادرة، وقد يكون انعطافًا في تجربتها، خاصة لجوئها إلى الأورانج الحارق، الذي يشي بإضاءات ذات قيمة حسية غير محدودة، وقد تكون محصلة لقيم رمزية لقضايا كبيرة نائمة بين أضلعها. وقد يعود ذلك إلى الجذور المفروضة والمطروحة في منطق لا وعيها، وهذا قد يجعلنا نُعيد النظر في كل ما يحرك العمل فينا، بدءًا من محركات النهوض المنبثق من تأريخ الذات، ومرورًا بتلك التبدلات المرافقة لسيرورة التكوينات في مستواها الإمتاعي المنفتح على الارتقاء في مستوى المقاييس الذهنية، بتطويع اللون في كشف رغائب الصوت المتمرد، وصولًا إلى حالة فاعلة في امتياز عالٍ لمستوى السياق الصاعد في الطبقة المزدهرة في كينونة العمل ووجوده. وهذا ما يؤكد امتلاك عملها لكل صفات التباين والتعدد، اللذَين هما من لوازم الالتحام لعملها هذا.
وإذا كان يتعامد الزمان المتحول على المكان المتغير في القيمة الجمالية لعملها، فإن التلاعب بمفردات العمل، وعلى نحو أخص اللون، هو سعي من قبلها لخلق علاقات تراتبية في كل مجالات الاعتقاد بأن العمل هو سرد إبداعي يغلب عليه حيوية الغوص، ولو وفق منظور يرتبط جنبًا إلى جنب بكل تلك التحولات الحتمية نحو غد غير واضح، وإن كان يجاور الفضاء المعياري بهامش كبير، عبر ثنائيات متصالحة حينًا، ومتصارعة في أحيان أخرى.
كما أن ميسون تملك خاصية المكاشفة عبر البوح بهمومها المقدسة، أقصد بسردياتها المتناسية لا المنسية، وهذا ما يمنح عملها دلالات جمالية وقيمًا فنية تقطفها برهافتها الحسية العالية، فتسردها عبر تجريديات تكاد تتحول إلى منجم لوني يفيض بالمكونات التي تخضع في أداء معانيها لأنماط التركيب الفني الخاص بها، والذي يقوم على تعدد صوتها داخل حدود عملها على شكل توليف جمالي إبداعي، فيه كل إيقاعات العزف المنفرد على عتبات العمل، بالتوافق مع نواظم تعود بها إلى ذاكرة يفترض بها أن تكون حاملة كل علامات التنوع والغنى.
كما أن ميسون تهتم بتوافر وسائل توحي بتساؤلات تحرك مواطن الاتساع في عملها، الاتساع الذي سيكون شاقوليًا في أكثر الأحيان، وأفقيًا في أحيان نادرة. فهي تمول بألوانها أدق الحالات التي قد توحي بالتعقيد من الوهلة الأولى، ولكنها، بإيجاد رفوف مع عدة إضافات، عليها أن تغوص في الحالة كمتخصصة لا كمنتجة، وبالتالي تبدأ بتنظيم ما هو منتَج من بين أصابعها، والتي سنتفق معها بأنها تحمل كل شروط الاعتراف بأنها مسؤولة، وبعمق، ما أمام نفسها، من خلال الاتصال بعملها على نحو يسمح لها بكشف التفاصيل المرغوبة فيها، وغير المرغوبة أيضًا. وهذا يُسجل لها، لا عليها، وهذا ما يجعلها تُصرّح بهدفها إلى حد الوجع، فمشروعها في الصعوبة، لكنها ببحثها المتواصل، وبتلخيصها الشديد لكل مؤشرات عمقها، تُعيد اكتشاف كل تلك العمليات بالقدرة على توفير سياق صحيح، سياق فيه الموازنة الدقيقة بين سردها اللوني، وبين قبضها للحالات المضمرة، ثم إطلاقها كمرادف لتلك الاستدلالات لمستقبل مشروعها، المبني على اكتشافات الذات وغاباتها. ولهذا، ميسون تعيش حالة تواصل كبير في حالة بحث متواصل ودائم.