الجزائر وأميركا: عودة الإبن الضال

مكالمة رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة مع رئيس سي آي أيه وليام بيرنز تذكير بعلاقات متينة وقوية ضمن مسار التاريخ والذاكرة البعيدة بين الجزائر وأميركا.

بقيت الولايات المتحدة طوال مدة تراقب وتستفسر وتنظر بصمت صاخب إلى هبة الجزائر نحو الصين وروسيا. في الظاهر بدت قلقة من هذا التقارب. وفي الخفاء لم يكن الأمر كذلك مثلما يتم الترويج له وتصويره في الأوساط الرسمية وغيرها، لربما لإعتقادها وعن قناعة راسخة أن هذا التسارع ما هو إلا ضربة شمس ستستفيق منها الجزائر، وتعود من لجة التيهان في صحراء البحث عن أي ملجأ أو جهة يمكنها أن تساعد في إصلاح الأعطاب وتقويم الإعوجاج الذي هز النظام الجزائري منذ سقوط أحلام الدولة العميقة في إستمرار حكم الراحل عبدالعزيز بوتفليقة وتأبيده على الكرسي حتى الممات.

دلت المكالمة الأخيرة للفريق أول السعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الجزائري مع رئيس جهاز المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز (وهي بالمناسبة نادرة جدا، حيث عودتنا سرديات الشأن العسكري الجزائري على عقيدة الخفاء والظلال، ولا يتم عادة الإعلان عن مثل هذه المكالمات الرفيعة الخاصة في وسائل الإعلام)، دلت على واحدة من سلسلة معقدة يحاول النظام الحالي إعادة رسكلتها على طريق أتضح مع الوقت أنه محتدم بالعلل والأخطاء في التعاطي مع الكثير من التحولات التي تجاوزت النظام الجزائري ليس لأنه لا يعرفها أو لا يدركها، بل لأن التقديرات والإيجازات والشروحات حولها شابها الخلل، وعالجتها بشكل سريع وناقص غاضب في أحيان كثيرة غير مملح بالخيال والإبتكار، كما أشرنا إليها في العديد من المقالات وكذلك فعل غيري.

في رأيي، أن توالي الزيارات للمسؤولين الأميركيين رفعي المستوى للجزائر مؤخرا، دون الحديث عن إتصالات أخرى في العلن والسر تقودها السفيرة الأميركية إليزابيث مور أوبين ضمن مساعيها لوضع إطار واقعي براغماتي للتعامل مع جزائر صعبة ومحيرة كما يقول العديد من المراقبين، وضعها في ظل التجاذب الذي وقعت فيه بين الصين وروسيا، هو أيضا دلائل وعلامات على أن الكثير من الأمور ستحدث في المستقبل القريب بين البلدين.

جاءت الزيارات بعد إخفاق الجزائر في الظفر بمقعد ضمن منظمة البريكس وتداعياتها التي لم تنتهِ بعد، وإن كانت جلّ التصريحات التي أعقبت الزيارات رسمية وبروتوكولية أكثر منها شيء آخر، فهي لا تفصح عن الأهداف الحقيقية لهذا الزخم المفاجئ للولايات المتحدة تجاه الجزائر.

لا تُعرف العلاقات بين الجزائر وأميركا إلا بوصفها علاقات متينة وقوية ضمن مسار التاريخ والذاكرة البعيدة، مع ما مرت بها من صعاب وتشاحن في فترات معينة. فبعد إستقلال الجزائر راهنت الولايات المتحدة بقوة علينا، جاعلة من المسارات الكبرى لسياستها الخارجية التي رسمتها فرص للتغلغل من خلال دعمنا إلى قلب إفريقيا وأطراف العالم العربي، حتى أن الزيارة الأولى للرئيس بن بلة هناك لقيت حفاوة بالغة، وأعتقدت أميركا في لحظة فارقة زاهية مفعمة بالطموح أنها كسبت رئيسا قويا في صفها بما أمتاز به من رمزية وشعبية كبيرة سكنت قلوب الشعوب والأمم المغلوبة على أمرها، وأنها ستعمل معه بأريحية، وتتعاون مع بلد يمكن الإعتماد عليه خاصة في تلك الفترة التاريخية التي اتسمت بصراع القطبين، كان يمكن للجزائر أن تلعلع وتزدهر وتقف في مصاف الدول الرأسمالية الكبرى. غير أن هذا الأمل الذي شع في عقل الرئيس جون كينيدي ومعاونيه آنذاك تضاءل وخفت. فبمجرد أن أنتهت الزيارة وغادر بن بلة واشنطن، سافر من هناك مباشرة إلى كوبا العدو اللدود لهذه الأخيرة وأرتمى في حضنها، وأختار معسكر الشرق حليفا إستراتيجيا، "وخبطنا في حيط" كما يقال عندنا بالعامية.

مع ذلك لم تتردد الولايات المتحدة بسبب هذه الخيبة المرّة ليس لها فقط، بل لنا نحن أيضا الشعوب التي آمنت بفضائل الإشتراكية والمساواة والعيش الكريم في كنف المعسكر الشرقي. غير أننا اصطدمنا بكوابيس الفقر والجهل والتخلف و"المزيرية الكحلة" التي عاشها أسلافنا، وأرتدت بعد سنوات علينا حين أكتشفنا حجم الأوهام التي تشبعنا بها وعايشناه ونعيش عليها إلى اليوم، قلت لم تتردد في نسج خيوط الود والسكينة والتنسيق وإن بدا باهتا مع الجزائر، غير أنه تعاظم مع المؤسسة العسكرية في فترة الإرهاب. وتعزز أكثر بعد الـ 11 سبتمبر المشؤوم حيث ضُربت أميركا في عقر دارها من طرف جماعات إرهابية عالمية. وللمفارقة ففي تلك اللحظات التراجيدية، كان الفريق محمد مدين المشهور بـ"توفيق"، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الجزائرية متواجدا في واشنطن، ضمن مهمة خاصة وفائقة السرية، أتصل حينها وفورا بجورج تينت رئيس الـ CIA، معبرا له عن تضامنه المطلق و"تعاطفه مع معاناتنا" كما جاء في مذكراته. بل تقول المعلومات أن الأجواء فتحت خصيصا وفقط لطائرة توفيق كي تغادر سماء الولايات المتحدة المشحون والخطير آنذاك بعدما أغلقت جراء الحدث المروع الذي لم تشهده هذه الأخيرة، مما يدل على المكانة العالية التي تمثـلها الجزائر ومن وراءها المؤسسة العسكرية في نظر المسؤولين الأميركيين.

فرضت حاجات الأمن القومي الأميركي بعد تلك الأحداث تعاونا وتنسيقا مستمرا وخفيا، حيث زودت الجزائر نظريتها بكل ما يمكن من معلومات وتفاصيل، وتقاسمت معها خزان ما تملكه عن الخلايا والأسماء والشبكات المنتشرة في الكثير من مناطق العالم، وهو ما سهل محاربتها والقضاء عليها، ومكن الولايات المتحدة من إجهاض الكثير من العمليات الإرهابية وتحييد قادتها ليس فقط ضمن بقعتها، بل في بؤر أخرى من العالم.

هذه الخبرة الجزائرية العريضة والطويلة والدقيقة التي صنعت مجد وشرف المؤسسة العسكرية، هي ما خلت الولايات المتحدة عيونها دوما متفتحة علينا، وأصبحنا درعا يمكن الإعتماد عليه، والأخذ بآرائنا وتحاليلنا ومواقفنا، وظلت توسع بهدوء مساحات علاقاتها لتشمل الكثير من القطاعات الأخرى، وقفزت حتى إلى مستويات بسيطة مثلما تفعله السفيرة الحالية إليزابيث مور، حيث تندمج بسلاسة في أوساط المجتمع، تتعايش مع اليوميات العادية مثلما كتبنا في مقال سابق، وتبتعد ظاهريا عن القضايا الكبرى الشائكة المحلقة في سماء الصراعات والإستقطابات.

وهو ما ترك الإنطباع بتخلي الولايات المتحدة عن هذه الساحة، وإفساح المجال لقوى أخرى قد تبدو معادية لها، ومهد الطريق كما يظهر لتغيرات عميقة يسير نحوها النظام الجزائري في الفترة الأخيرة حيث الإصطفاف في مربع ما يقال أنه نظام عالمي جديد يتشكل في أحضان الصين وروسيا.

غير أن العارفين والمنتبهين، ذوي النوايا الطيبة، يرون عكس هذا تماما. فتكتم الولايات المتحدة ليس معناه الرضا بالقليل أو بما يحدث عند عتبات سفارتها بالجزائر، ولا ينبع من رؤية ضعيفة تشعر بها إزاء نفوذ وبسط هذه القوى أرجلها وأيديها في كل شيء عندنا. بالمختصر المفيد تعرف أن هذا الإستئثار ظرفي ومؤقت ويخضع لسلسلة من المناورات تنتهي إلى لاشيء كأنه فقاعة وأنفجرت، وزلة قلم ستنمحي سطورها حالما تقلب الصفحة وهو ما حدث في البريكس.

فهل تمثل كثافة هذه الزيارات والإتصالات فرصة للجانبين للعودة إلى واقعية علاقات مثمرة بعيدا عن لعبة الأمم التصادمية التي يعيشها العالم اليوم؟

أعتقد أن الجزائر اليوم بحاجة إلى أقوى دولة في العالم - ولا زالت كذلك مهما كثرت التحاليل عن تلاشي هيمنتها وإنعتاق العديد من الدول من قبضتها. وهو ما يدفعنا لأن نصغي إليها بإنتباه وجدية ونتحلل قليلا من عنجهية المواقف الحادة الخشنة الصدامية التي لا تركب في العقول إلا العزلة والتخبط. ولكي نكون منطقيين أكثر فالجزائر أيضا بحاجة إلى تكتلات أخرى، ولكن دون أن تمارس علينا جاذبية برّاقة تسقطنا في شراك التوهم والعظمة والخلاص الأبدي، ونحن نعرف بالعيان وحسن النظر أنها مجرد مرايا تعكس صراعات وإنقسامات وفوراق هائلة فيما بينها والتي يجب أولا تجاوزها والحد من سيطرتها كي نربح المستقبل معا ونعيش في توافق وسلام.