الفريق توفيق والجنرال خالد نزار: أنقذا الجمهورية وأنقذتهما الجمهورية

لا يزال الجزائريون يعتقدون أن للقائدين السابقين لجهاز المخابرات قدرة على التأثير على مجريات الأمور في البلاد.

ينسب إلى الفريق محمد مدين المعروف بتوفيق القائد الأسبق لجهاز المخابرات الجزائرية والجنرال خالد نزار، نفوذ يعتقده الكثيرون أنه ما زال يسري ويتغلغل في المشهد العام والحياة في الجزائر، حتى وهما في بيتهما يتمتعان بتقاعد فاخر ومستكين بين الأهل والعائلة، يريحان عقليهما وجسديهما من هول كل الأحداث التي عاشراها، وكانا تقريبا الأوحدين في صناعة مرّها وحلوها، أخطائها وصوابها، الأفضل لها والأسوأ.

قلت ما زال يشار إليهما بالبنان والهمس والأقاويل والأحاديث والتحليلات، ويتم الجزم بصدق ووعي لا يتزعزع أنهما يقفان خلف كل قرار كبير وصغير، وهما من يتحكمان في رقبته وخيوطه. وهو وعي جزائري محض لا يؤمن بخلاف ذلك حتى ولو أدخلته إلى عرين السلطة وكشفت له خفاياها ومكنوناتها، وما يغلي بداخل "مرميطة" الحكم، يكرس بعناد لا مثيل له هذا التعلق بهكذا قناعات لا لبس فيها ونهائية، ولا يفتح حولها نقاش منطقي عقلاني وحقيقي بالدليل والوقائع العينية، تتضح مع الوقت أنها مجرد أوهام، تلامس العبث، ويلصق العجيب والغريب والمستحيل بهذين الرجلين رغم بلوغهما عتيا من العمر بكل ما يحمله ذلك من علل وأتعاب الشيخوخة التي تأكل ببطء دورة حياتهما وتوهن جسديهما. ضف إلى ذلك التكرار الممل للأقربين منهما بالمعروف والإحسان والجوار والعلاقات الخاصة أن لا صلة لهما بتاتا بواقع ما يحدث داخل النظام مدنيا كان أو عسكريا لا من بعيد ولا من قريب، ولكن كما يقال بالعامية عندنا: "أرواح أنت ودخلهالو لراسو"، أي: تعال أنت وأدخلها في رأسه.

فلماذا هذا الإصرار كله على أنهما ما زالا يتمتعان بمزايا السلطة المطلقة؟ وهل فعلا يمتلكان قداسة هذا النفوذ.. لا يمسه غيرهما، ولا ينتهي أبدا حتى وهما على تخوم الحياة التي سينطفئ ضوءها في يوم ما.

هذه لمحة خاطفة مقتضبة ومتخيلة عن الرجلين، تحاول أن تكتنه ما هما عليه، وفي أقصى ذلك المكان الذي هما فيه الآن.

يتجاور بيت الفريق توفيق الجميل والواسع الواقع في أعالي العاصمة، وبيت الجنرال نزار، غير أن بيت هذا الأخير لا يظهر للعيان، يمتد جزء من حائط بيت الفريق توفيق على طول الشارع، لا يرى لكثرة الأشجار التي بداخله، يكاد يشبه تلك القصور المخيفة في قصص الخرافة والأساطير. من يجهل لمن هذا البيت لن يصاب بالدهشة لإعتقاده أنهما ملك لأناس عاديين، ومن يعرف أنه لتوفيق سيضرب أخماسا في أسداس وكفا على كف، وتنتابه حيرة وأسئلة كثيرة لعدم وجود ما يدل على أنها منطقة محرمة ممنوعة ومقطوعة، ويقطن بداخلهما أخطر وأهم رجلين أنجبتهما المؤسسة العسكرية بل الجزائر قاطبة.

خالد نزار في أيام المنفى
خالد نزار في أيام المنفى

لا يعرف إن كانا يطلان على بعضهما أو حتى يتصادفان عند الخروج ويلقيا التحية على بعضهما. فالرجلان مشغولان بأجواء العائلة والأحفاد، أو في أحسن الأحوال يعتنيان بحديقتيهما، يزيلان ما أنبسط على التربة وعلى الأشجار من خشاش وأعشاب ضارة، أو يسقيان الورود. والأكيد أن أمورا كثيرة تقفز إلى رأسيهما وهما يتجولان في الأرجاء الواسعة لبيتهما، أو تمر عليهما لحظة تفكير في ما يحدث حواليهما من أمور غير أنهما يهشان الفكرة المتطايرة في هواء العقل ويعودان إلى مسرح مشاغلهما الخاصة، أو لربما يلتقيان مرة على مرة على كأس شاي وقاطو، أو يتلقيان مكالمات من الأحباب والأصدقاء للإطمئنان على الصحة والأحوال، أو يستقبلان بعضا من تبقى من رجالهما الأوفياء سواء من كانوا يشتغلون معهما وتقاعدوا أو ممن هم ما زالوا في المناصب.

يقال أن الفريق توفيق لا يستعمل الوسائط بل يجهل هذه التقنيات ولا يقترب منها، ربما لإحساسه الأمني العالي الموروث من حقب غائرة في الزمن حين تدرب على يد عناصر الكي جي بي وتعلم منهم الإرتياب والشك في كل شيء وهو ما خلاه يرى في هذه الوسائط وسائل للتجسس، مع أن أحد أبنائه يدير مؤسسة تعنى بكل ما له علاقة بالتكنولوجيا والتقانة، حاليا لا يكثر من المكالمات الهاتفية إلا في حدود ومع بعض أقاربه وخاصية أصدقائه.. لا يتكلم كثيرا فهو دوما أحرص خلق الله ممن يتفادون البوح برأيه القاطع في مسائل حيوية. فطيلة السنوات التي قضاها على رأس جهاز المخابرات لا يعرف أحد - غير الدائرة الضيقة التي كانت تحيط به - كيف يتكلم؟ شكل صوته ونبرته؟ أسلوبه في النطق ببحة أم بلين؟ يسرع في الحديث أم هو هادئ على نار باردة؟ ينتقي الجمل والمعاني بدقة أم بفضفضة.. هل يشير أم يرمز؟ حوط نفسه بالغموض وأسطره للأبد، حتى في المناسبات الخاصة كالأعراس مثلا كان ينزوي في مكان قصي مع نفر أو إثنين من أصدقائه المقربين يتحدث معهم بصوت كأنه هسيس بلا أحرف أو نغمة.

عكسه تماما نزار. فهو ذو صوت جهوري وكأنه خارج من كهوف مخيفة ومرعبة. ثقة وقوة ونبرة ساطعة في القول المندفع كأنه مدفع.. استمده من روح المكان الذي ولد فيه فهو إبن قرية تقع وسط طبيعة قاسية خشنة صلبته، وبين جبال وعرة صقلته. ضف إلى ذلك فهو يملك جسد أسبرطي متين واجه به الإستعمار والإرهاب وقاتل به إسرائيل. هو ليس بالذكي الألمعي، ولكنه ماكر ونبيه وفذ، وعريف مبهر بخفايا البلاد والنظام والسلطة والعسكر، قبض على سردياته وطوعها ببنان، وهو ما جذّر الإنطباع لدى الكثيرين وإلى الآن أنه ما زال يجري كالدم في عروقها ومفاصلها.

كاد الفريق توفيق أن ينسى أن له عائلة تنتظره كأيها عائلة، فالمشاغل التي كانت متراكمة في طريقه، وكثرة الملفات الحساسة الموضوعة على مكتبه طوال فترة ترأسها لجهاز المخابرات جعلت صلته بالبيت تكاد تكون ممهورة في لفيف النسيان، حتى ما قبل زواج إحدى إبنتيه التي حضّرت عرسها في غيابه المتقطع عن الحدث العائلي. نصحه نزار بترك المنصب وضرورة الإلتفات "شوية" إلى العائلة، ولكنه لم يأخذ بالمشورة وأخبره أن البلاد ما زالت بحاجة إليه، وواصل مهامه المعقدة إلى غاية إنهاء مهامه. غير أنه اليوم أستدرك الأمر وكل الذي فاته مع زوجته وبناته (إحداهما بالمناسبة فنانة حرفية ترسم وتنقش على الزجاج والآواني والأطباق)... وأحفاده، يقضي معهم وقتا أطول يربي ويكبر معهم.

المشهود لنزار أن علاقته بأفراد عائلته طيبة وصارمة في نفس الوقت. تربطه علاقة خاصة بإبنه البكر لطفي، هذا الأخير أخذ منه صفات فيزيولوجية وذهنية، مرن أكثر منه وأذكى، فهو من جيل متعلم تعليم عال ومطلع على أحدث التكنولوجيات - مثله مثل أحد أبناء الفريق توفيق. أما مع بقية أفراد عائلته وقريته وأناسها فهي مبنية على الإحترام العميق لرجل مجاهد ورجل دولة من الطراز الرفيع، ويقال دوما أنه كان ينأى بنفسه عن أي تدخلات لصالح عائلته وقريته إلا إن كانت على حق، مع أن كل الأسباب جمعت له لفعل ذلك وأكثر.. عندما كان على رأس وزارة الدفاع أشتكى أهل قريته من عدم توفر سبل حياة رغدة ومعيشة حلوة، وبطالة قاتلة تعصف بهم، فكان أن تدخل بعد إلحاح كبير من أعيان القرية ومراسيل وزيارات إتصالات خاصة، وأعطى تعليمات ببناء مصنع ينتج رصاص للمسدسات الخفيفة، وبدأت عجلة الإنتاج تدور، وبعد مدة بدأ بعض العمال بالتململ وشنوا إضرابات وأوقفوا الألات، وأعتقدوا أنهم بمجرد ذكر اسمه وصفته سيتمكنون من الضغط والتخويف لحل ما أعتبروه آنذاك مشاكل. ولما بلغ الأمر مسامع نزار كانت المفاجأة.. فعكس ما توقعه الجميع بالأخص من أهالي قريته، أمر بغلق المصنع نهائيا، وأن لا يتم الزج به في النزاع والصراع والمطالب هو في غنى عنها خاصة في تلك الفترات العصيبة من حياة الجزائر التي كانت في قلب الدم وعلى شفا حفرة من النار، وحتى لا يقال أنه أستغل منصبه واستعمل نفوذه وتعصب.

يعرف عن الفريق توفيق أنه رياضي بإمتياز، وعنده ولع خاص بكرة القدم، ولا يعرف عن نزار أنه كذلك.. مع أنه أوتي قوة جسدية متينة وقامة مهيبة.. يكتفي حسب مصادر برياضة المشي داخل إقامته الفسيحة والواسعة، يحسن السباحة وعوام. قلل الإثنان من الحركة لتقدمهما في السن.. وباتت عصا غليظة يتكأ عليها نزار في ممشاه إحدى أسلحته المميزة، ويعتقد أن توفيق أيضا أتخذ عصا بعد إصابته في الكتف أثناء فترة سجنه وخضوعه لعملية جراحية.. بقي نزار مدخنا شرها، أما توفيق المشهور بعشقه للسيجار الكوبي فهو ما زال كذلك ولكن ليس بنفس الشغف.

في مخيال الكثير من الجزائريين أن مثل توفيق ونزار، لا يرضى إلا بما لذّ وطاب من فاخر الطعام وأدسمه، بل تطرف وشكل - أي المخيال - صور لجلسات خاصة يظهر فيها هؤلاء الجنرالات وهم يلتهمون عجولا وكباشا محمرة ومجمرة. غير أن الحقيقة أبعد عن هذا تماما.. فلقد حكى أحد المقربين من نزار أنه في خضم الإشتغال على إحدى كتبه، وعندما حلّ وقت الغداء دخل معه إلى المطبخ، وكان يتصور أنه سيجد مثلما أوحت له مخيلته كالجزائريين أعلاه، خروف ولحوم شهية وأطباق لم تتذوقها الألسن أو تراها الأعين أو تشمها الأنوف ولا خطرت على قلوب الأنس والجن، غير أن نزار فاجئه بمرميطة كما يقال أو "برمة" مليئة بالعدس. وليس الأمر كذلك بالنسبة لتوفيق فهو كما أسلفنا رياضي يتبع حمية مركزة ويتناول مأكولات وأطعمة خفيفة وطبيعية.

عندما يستذكر نزار قراره بوقف مسار الإنتخابات التي جرت في تسعينيات القرن الماضي التي كان الإسلاميون قاب قوسين أو أدنى من الفوز بها، يستذكرها بفخر وعزة، ويعترف في جل تدخلاته وحواراته بأريحية وبلا مواربة ولا خفاء ولا تردد ولا إنحيازات ولا خوف ولا حتى ندم، أنه صاحب القرار ولا أحد غيره من كل المحيطين به من أعطى وصادق على الأمر وبصم عليه. طبعا هذا القرار والإقرار لم يكن منفردا بل محصورا في 3 أو 4 شخصيات عسكرية نافذة. كان يعرف أن السياسيين ومن لف حولهم مهزوزون ومترددون ومدققو حسابات ظرفية ولاعبون وراء الظهر والستائر، ولا يوثق بهم. لذلك أوقف لوحده المسار في مفصل تاريخي خطير، وقال أنه جنب البلاد الوقوع في مخالب المتطرفين والإرهاب المخطط له، ومن جهات كانت ستجرها إلى الهاوية والجحيم والفوضى. وعلى مر سنوات وسنوات ما زال على رأيه وقناعاته المتشددة في أنه فعل الصواب والصحيح. طبعا يتقاسم توفيق هذه القناعة لأنه كان أحد مهندسيها، ولكنه أحجم وسيحجم للأبد عن إعطاء رأيه فيها اللهم إلا إذا حدثت معجرة ويكون قد دون الكثير من هذه الأسرار في كتاب يروي فيه سيرته المشتعبة مثلما فعل نزار الذي تزخر المكتبة بالعديد من المؤلفات التي كتبها وخطها شواهد على تاريخ صعب عاشه وعايش أدق تفاصيله.

هاتان صورتان مقتضبتان لأبوين ومجاهدين وعسكريين كبيرين تخطت شهرتهما حدود الممكن والمستحيل والمعقول، نافذين في قلب القرار والحكم في الجزائر بل كانا هما القرار الفعلي وإن كانت كلمة الفصل تعود دوما لنزار بإعتباره القائد الأعلى، وهو من ساهم في تكوين توفيق حيث دربه على القتال والسلاح في تونس، وهو أول من كسر الهالة التي ضربت حوله حيث كشف عن صورته للرأي العام في إحدى كتبه، وهو من وضعه في مكانه الصحيح في بعض لقاءاته الإعلامية حين تحدث عنه بإعتباره جندي نظامي من جنود الجيش الشعبي والوطني، منضبط، ويأتمر بإمرته وتحت تصرفه. رجلان قلّ نظيرهما في تاريخ الجزائر، خاصة الفريق توفيق الذي لم تكتب سيرته بعد، الغنية بأخطر الأحداث صنعها هو والجنرال نزار وثلة أخرى من الرجال، وما زالت بعد لم تحكى وتروى.

سيؤجل التاريخ قراءة قدرهما، أجتمعا في أتون صروفه ومساره ومسراته، أمتحن صبرهما المضني، وترفقا لفترات طويلة داخل المؤسسة العسكرية. دفعا الكثير من أجل أن تظل الدولة أو الجمهورية على علاتها قائمة، تخطاهما الموت وكأنه لا ينظر إليهما. تعرض نزار للعديد من محاولات الإغتيال ونجا توفيق من رصاصات استهدفته من إحدى العمارات، دون الحديث عن محاولات أخرى مكتومة في السرية. وفي عز جبروت قايد صالح لاحقهما، زج بتوفيق في السجن، ولم تتح له الفرصة لفعل ذلك مع نزار إذ تلاعب به وطمئنه ونومه في عسل التصريحات المهادنة حتى قفل هاربا إلى إحدى الدول الأوروبية.

خرج توفيق من السجن حرا بريئا وعاد نزار إلى الجزائر معززا مكرما. وتلك أقدار أخرى تتعالى في سماء رجلين أنقذا مرة الجمهورية من الإنهيار وأنقذتهم الجمهورية من السقوط.