متلازمة خالد درارني: الصورة المتشظية

سيّلت قوى مبهمة خالد درارني منذ أن حركوه أو تحرك لوحده في يوم غضب الشارع، خوضته في "طنجرة" الدعاية والبروباغندا، وأظهرته الأوحد الآرق والمأخوذ بهموم الحرية والرأي المستقل.

وضع ظرف من الحجم الكبير بنّي اللون على الطاولة.

قال إنها رسالة عاصفة متطلبة للإفراج عن زميله إحسان قاضي والسماح لإحدى المنظمات المريبة غير الحيادية في التعامل مع أحداث ووقائع كثيرة.. السماح لها بالنشاط بكل حرية في الجزائر.

ثوان معدودة مرت في الصور الملتقطة سواء الثابتة منها أو المتحركة. بدا باهتا وكأنه يترقب أو يتساءل أو يخطط أو مزهو في سره.. فأنا من كنت سجينكم وها أنا بينكم منتصرا. أجلس في الطاولة بجنب الرجل الأول والثاني في الدولة.. "بلاصة" لا يحلم بها حتى من أهلك نفسه وقوته وعياله وماله وتزلف وباع وبايع و"بيـْع" لكي يكون فيها.

أجلسوه هناك في خلطة مبهمة بتكتيكات مجهولة، لا يعرف أسبابها وخلفياتها إلا من قرروا ذلك أو لربما تصرفوا بعفوية مطلقة ودعوه لكي تطوى صحائف الخلافات ويحتوى بعيدا عن تلاعبات غامضة يعرفها الكل، فهو من صلب هذه الأرض ضال أو ضلل غير أنه أخفى ما نواه ولكل ما نوى، حتى قيل أن الرجل الأقوى في المنظومة العسكرية تملكه غضب عارم لما رآه على بعد طاولة منه، بل نادى على أحد الضباط للإستفسار عن هذا الأمر.

إنه خالد درارني ببساطة عارية. الصحفي الذي لم يكتب مقالا قويا أو روبورتاجا مدويا أو تحقيقات كبرى مثلما أسرت إليّ صحفية لامعة، حيث نقبت هي وزميلة لا تقل لمعانا عنها في أعمق أعماق غوغل للعثور ولو على شيء يشفي غليلهما ونهمهما لمعرفة كيف تحول بين ليلة وضحاها إلى أيقونة ورمز وعلامة وإسم ولقب يسكن الشفاه وتلهث به الألسن وتردد، ليس هنا فقط بل في كل مكان وزمان، ويحسب له ألف حساب.

صنع خالد درارني على عجل، ورمي ذات يوم حين أهتز الشارع في حراك صاخب. ظهر من عدم أو سقط من السماء سيان الأمر، أحتاج إلى أكثر من عين تراقبه ويد تعجنه ومخابر تعلمه وتدربه، وملل ونحل وخلايا تتبع أي نهمة يقولها كي يكون ما عليه اليوم، يلتفت إليه الداني والقاصي كلما اشتدت القبضة عن ما يقال أنها حرية ورأي مستقل موزع على أنفار يشبهونه في الملة و"المول" والحركة والهمسة، موزع عليهم بالتساوي دون النظر في آفاق أخرى تبرق في سماء وهوامش ظلت منسية لإعلاميين وصحافيين لا يتم ذكرهم لأن رأسمالهم غير مشبوه أو مخفي.

في المشهد الذي جمعه بالرئيس تبون أثناء الإحتفال باليوم العالمي لحرية التعبير، لم ينقل التلفزيون ما دار في تلك اللقطة التي عبرت وتكثفت بعدها في الرؤوس والتحاليل والأقاويل، وشحنت في شبكات وقنوات ومواقع جلّها أشارت إلى بطولته المغاورة حيث مر الرئيس عفويا على كل الحاضرين يسلم على هذا ويتبادل الحديث مع هذا في موقف عادي وبالأحرى بروتوكولي فهو المضيف والضيافة تحتاج إلى كياسة. مرّ عليه تكلم معه وحياه. لم يتم بثّ ما دار بينهما للضرورة والعرف كما وقع مع غيره من الإعلاميين الحاضرين. غير أن القراءات التي تلت الموقف صبت في إتجاهين.. مخوّن ومدعم، لم يأبه بها بل صرح أنه تكلم بجرأة وحزم عن مطالب مدروسة بدقة وعناية ومخطط لها في مكان ما.

تجاهلت هذه القراءات تلك المغايرة والمختلفة للحدث، صَمّت آذانها وسكتت أصواتها وحيّدت في زوايا لا يصلها الضوء ولا يحتفى بها. فخالد هو الحدث والفعل وما سواه لا شيء، كما حدث في أطوار محاكمته حيث تفشت عنه مقولة الضحية المظلومة وما عداه ظالم وفي قفص الإتهام والشبهة، وحده منبع نهر تجري مياهه المقطرة بالمليمتر.. لا يتذوقه إلا من أصطف في طابور النهي والأمر القادم من هواء بعيد أو قريب، كأن بوصلة الحضور الذي جُمع في تلك الإحتفالية لا تدور إلا حيث يدور فلكه، وتلك لعمري صنيعة بطقوسها كي تظل صورته أكثر سطوعا وبروزا وجاذبية تصعد به صعودا صاروخيا وسط الغبش والضباب.

عندما تتأمل الهالة التي حبكت خيوط ذلك اللقاء الغريب بين تبون الغاضب وبين المغضوب عليه درارني، ستتأرجح بين زمنين حيث كان هذا الأخير "خبارجي" بالقوة والفعل لقوى خارجية ثم غدا فجأة ضيفا متحللا من بلاغة هذه الصيغة. لم تضيع العيون التي تترقب كل خطواته هذه الفرصة حتى ضجت الآراء بالخرق الذي أحدثه حضوره في النسيج العام الذي سار عليه اللقاء الذي لمّ أطياف من هنا وهناك ونسي أطياف أخرى أكثر تألقا وإبداعا، وأضيف إليه - أي اللقاء - ما قاله "البطل التراجيدي للواقعة" أنه سلّم الرئيس تبون رسالة مزمجرة والتي لم تظهر في مشهدية الصورة المتحركة، ربما قصّها الرقيب العليم حتى لا يكون الموقف محرج أو به فداحة أو مقتنصة ليُفعل بها الأفاعيل، أو ربما تمددت بكل دواخلها في تلك الطاولة الإستثنائية التي جلس عليها وتبخرت في الجو الضاغط.

سيّلت قوى مبهمة خالد درارني منذ أن حركوه أو تحرك لوحده في يوم غضب الشارع، خوضته في "طنجرة" الدعاية والبروباغندا، وأظهرته الأوحد الآرق والمأخوذ بهموم الحرية والرأي المستقل وجدليته المستمرة بين من يراه مضمونا لائقا ومن يراه مكبلا ومسير وكابسا على الأنفاس ومعتل. تبدد خالد أو بددته تلك القوى في جو مفرغ من مضامين التميز والعمق والأصالة والمقاربات التي لا تتلبس بالمنافع الضيقة لفئات تحاول أن تنخر في جسد وروح البلاد، تماهت معه قوافل أخرى لعبت في خلفية الصورة المتشظية بوعي أو بدونه، ثم وضعته حيث شاءت وأنى شاءت وفي أي ساعة شاءت، أستدرجته نحو فخ القول المأمور وقالت له: قلْ فقال.

في رأي ليس خالد درارني إلا نموذجا موثقا بالصورة والصوت عن كرة ثلج تكبر وتكبر وتكبر، ويزداد حجمها كلما تسربت بين ثقوبها الصراعات والتموقعات والمصالح والمؤمرات، تتدحرج ثم ما تلبث أن تذوب، وفي أحسن الأحوال أريد لنا أن نؤمن "بالسيف" بالفقاعة كبيرة، المليئة بالأوهام والنرجسية الضنينة، يفترض فيها - أي الفقاعة - أن تفيض حالما تتبدل مسطرة الأهداف والنتائج.

لم تنته فصول مسرحية "فاوست" الذي باع روحه للشيطان، ستستمر حالما يتغير الديكور والزمن والوقت، وقد تبدأ بمكافآت ومنافع وجوائز، وهو ما حدث فعلا حيث منح "جائزة التأثير الإيجابي"، من طرف المنظمة الإسبانية "أنوتشي توبي أُون سوينو" (Anoche Tuve Un Seño)، وذلك "تقديراً لعمله الدؤوب والتزامه بحرية الصحافة"، مثلما جاء في حيثيات التقيم. غير أن هذا التثمين غضّ الطرف عن خواء وإفلاس المحتفى به من جوهر العمل الإعلامي كي لا نكرر ما قلناه سابقا وما أسرت إلي به الصحفية، فما عدا ثرثرات فايسبوكية، وتنشيط "فيديوهات" سريعة جدا، وبيانات تفتقر إلى العمق والرصانة التحليل، لن تعثر على أي شيء، فأين رأت هذه المنظمة كل هذا التأثير والإستثناء في تفعيل الحركية داخل المجتمع، اللهم إلا إذا كانت فلسفتها تركيب وهم الإنتصارات الدونكيشوتية في رؤوس الطواحين.

سقط خبر منع خالد درارني من السفر، أنطوى الخبر على الكثير من الأمور أبرزها كبح جماح الأذرع التي تعصر لإعلاء شأنه في مشهدية واقع إعلامي مرتبك ومعطوب، لم يكتب فيه خالد درارني أي شيء.. ذلك المشهد الذي يصارع رواده الضجيج الآتي من هنا وهناك، يقاومونه كل لحظة ودقيقة، ويدفعون من أعمارهم الكثير والكثير ليكتبوا بحرقة نادرة أين لا رسائل بنية اللون ولا جلوس مبهم ولا سفر ممنوع.