نحو تفكيك فكرة القاضي إحسان

يواصل العالم وأتباع القاضي إحسان النظر إلى قضيته على أنها عثرات في طريق الحرية والتغير. هذه قراءة مغايرة.

يريدونه حرا طليقا وفورا، وكأني بالقوم يتعاملون مع دولة مارقة لا قوانين فيها ولا سيادة، فهو حسبهم مصباح الصحافة الحرة.. به وحده تنار دروبها، وبعده الظلمات والهاوية وبئس المصير. يريدونه لأنه "قتيل"، تفرقت دماء كلماته اللألئة على مذابح نضالات الأحرار ضد جور السلطة والنظام والقوانين القامعة..

غيرهم لا يريده حرا، لأنه مريب، وخارق قوانين الجمهورية، دمية في يد مشغلين معروفي المضمون ومجهولي الشكل، أحد الأذرع الخفية التي تنزع لخلق الفوضى والبلبلة داخل النسيج العام للبلاد التي لطالما تحلم بالذهاب نحو التطور والتخلص من الإرث وتركة الماضي بوجوهه المتعددة المستعمر والدولة العميقة وأذنابها التي دوامت على البقاء والسيطرة على مفاصل الدولة وكأنها أبدية لا تتغير.

القاضي إحسان، شاغل الدنيا ومالئ عقول الفلاسفة والنخب والكتاب والمريدين في كل مكان. ألم يوقع الفيلسوف نعوم تشومسكي مع شلل وملل أخرى، رسالة تنضج بالقلق والخوف عليه وعلى مصير البلاد من الغلق والخنق والأفق المسدود وغيرها من التعابير والجمل هي نفسها المكررة منذ عهود كأنها حرباء تتلون ولا تتبدد، وأكاد أجزم في قرارة نفسي أنهم لم يقرأوا حرفا مما كتبه وهم المنذرون إلى قضايا أخرى لا يسمع به أبسط صحفي عندنا ينتظر بيأس أشهر طوال كي يحصل على راتبه.

هو "البطل الإغريقي" لكل الوقائع والسكوبات والتحاليل المستقلة عن أي ضغط أو أي جهة كما يروج له أتباعه وأنداده.. القلم النفاذ في العقد.. مقض مضاجع النظام عسكرا وساسة ومسؤولين.. محارب ممتد في القائمة الطويلة الدقيقة الموضوعة في عوالم خفية.. مرشح أمثل لخلايا ودوائر ومخابر بمواصفات محددة سلفا ومعدة بأيدي غامضة تخفت وتعود لتنبعث من جديد، تضخ الدماء المتخثرة في فكرة اسمها القاضي إحسان، تصوغها بإتقان كي تجدد بها ما تخطط له وما ترسمه في خلفية الصورة وغبشها.

فمن هو القاضي إحسان؟

لماذا لم تضج المضارب والقبائل حوله، وتغضب من أجله الأمم والأقوام والمنظمات والهيئات والأجهزة والإتحادات؟

لماذا تكيل هاته الأخيرة بمكيالين فقط عندما لا يعجبها إلا ما يروق لرأسها وينسجم مع كأسها؟

لماذا لا ترى بالبصر والبصيرة حجم القمع المنتشر في العديد من الدول حتى تلك الموصوفة بالديمقراطية (السترات الصفراء نموذجا)، كي لا نتحدث عن فلسطين، وتراه فقط في شخص القاضي إحسان وثلة من القابعين في السجون؟

لماذا حين يخرق أحدهم القوانين والشرائع والضوابط في أي بلد يحاكم ويأخذ جزاءه فهو الحلال المحلل، أما إذا حدث الأمر نفسه عندنا مثلما فعل القاضي إحسان ويحاكم على فعلته تصبح القضية قضية سامية وحرية مفقودة ورأي مضطهد وجب التنديد به، وتغدو كل الوسائل متاحة ومشروعة ومباحة لممارسة الضغط كأننا دولة بدون هوية وسيدة على أمرها ويجب أن ننفذ الإملاءات والتوصيات صاغري الخد مطأطئي الرؤوس؟

هل القاضي إحسان عنصر نشط فعال بلغة الإستخبارات وشيفراتها، وسجل تجاري إستثماري صرفت عليه الأموال كي يظل صكا رابحا يدر المنافع ويحفظ العهد ويدافع على مصالح فئات ما؟

كيف يمكن فهم هبة التضامن الغريبة لنخب عالية المقام وازنة في مسار العقل والفكر والعلم، لنصرة شخصية أقصى ما قامت به هو كتابة أنية لا جدل فيها أو أفق أو رؤية عميقة، وأجرت حوارات مكررة مستهلكة عن الديمقراطية والسياسة وغيرها من المواضيع؟

كيف أرتكنوا إليه بالشكل الذي جعل التضامن معه يحوز صفة المصداقية وهو محل شك ومتابعة بقضية جنائية مكتملة الأركان (أشير هنا إلى جناية تلقي أموال من الخارج كما هو معروف من محاضر القضاء)، حيث لا يمثل أي إبداع حقيقي ولا أسس لتيار فكري خلاق ولا صنع إرث معرفي أو ثقافي أو فلسفي كبير ولا أثر في الشأن العام؟

هل نحن أمام ظاهرة مصنوعة ومفبركة سينتهي دورها كما أنتهى غيره؟

هنا محاولة لتفكيكه.

في غمرة كل الأحداث السياسية التي عصفت بالجزائر، كان الصحفي يلعب دوما بمقربة من هذا الميدان الشائك وصانعيه، بعض أدواره كانت كاشفة وبعضها غامضة وبعضها منحازة وبعضها مخلصة وبعضها نفعية بعضها سافلة وبعضها راقية وبعضها دعائية وبعضها مضللة وزائفة ومتقلبة موجهة ومتزلفة وإنتهازية إلى غيرها من النعوت التي يمكن أن تصطف أو تضاف أو تستخرج من قاموس اللغة لرسم بروفايل دقيق وواف لهذا الصحفي.

تظل هذه العلاقة بينهما سيالة كأنها رحلة لا تتوقف ولا محطة نهائية لها، وإن مرت بعض تفاصيلها ببعض "الليفتينج" بسبب الصراعات المحتدمة بين عصب النظام سواء العسكر أو الساسة أو المتنفذين، كان النصر يعود دوما للأقوى نفوذا ومالا وسيطرة وإستحكاما في خيوط البسط والقبض، وفي هذا يخرج الصحفي من أغلال ومناكر ومحاسن هذا الصراع إما إلى ساحة التصفية كما حدث للطاهر جاووت وغيره، أو يلفه النسيان كأنه لم يكن شيء مذكور كما حدث للصحفي بن تشيكو سابقا، أو يركن للصمت القاهر والأمراض والعلل حتى يتوفاه الله، أو يجد نفسه مذلولا راكعا على باب الملك يستجدي الفتات لكي يستمر، وهو ما نراه اليوم ظاهر بالصورة والصوت والعيان والمعاينة.

لربما يعرف القاضي إحسان كل هذا، ويعرف غيره أن يمكن أن يصنف.. لم يجد ضالته إلا في المواجهة الناعمة مع السلطة حين أرتدى نظارات اليسار السميكة بمعناه الكلاسيكي، وكان من مؤسسي الحركة الثقافية البربرية، أو أنسجم مع خط المصالحة كما تبناه الراحل عبدالحميد مهري بعد توقيف المسار الإنتخابي، مزدوج الثقافة، وقال لي أحد مقربيه أنه معتدل، لا يعرفه معاديا لكل ما هو عروبي وإسلامي، رؤيته أصيلة، ويمكن كما قال أن ننعته بجزائري تقدمي.. عكسه تماما الصحفي محمد بن تشيكو الذي أنخرط في صفوف راديكالية متعصبة متزمتة متشددة لمواقف طيف من السلطة آنذاك، من قضايا مصيرية تفاقمت حدتها بعد أن صدع الإرهاب وبدأت آلة القتل تحصد الأرواح، رافض لأي حوار مختلف وممكن، بل شخصن أفكاره لمصلحة جماعات ضيقة ضاغطة في الحكم ينطق بإسمهم، ولم تعد الحلبة مفتوحة لمقارعة الحجة بالحجة، بل قفزت "ثيران" المواجهة إلى المس بالحياة الشخصية والتشهير كما فعل في كتابه عن الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.

هذا التقلب السلس للقاضي إحسان سيكبر ويعلو مع موجة الحراك.. سينحاز إلى موجة الرافضين لبقاء النظام كما هو قائم منذ الإستقلال، فأسس موقعين وقناة إذاعية ليكون التحدي أكبر وأنفع، فتحهما لتمرير رؤى مغايرة في الطرح والتحليل والنتائج، وهي حسب بعض المتابعين مكرسة لخدمة أجندات غامضة داخليا وخارجيا بأهداف واضحة، نشط فيهما لفترات طويلة سواء كتابة أو صوتا وصورة دون أن يثار حوله أي غبار، وقد ثبت فيما بعد كما جاء في محاضر التحقيق تلقيه تمويلا خارجيا مريبا وهو بمثابة جرم وتعدي صارخ على القوانين الدولة. وهنا دار السؤال وبقيت الأجوبة تلتف في فلك التكهنات والشائعات ما إذا كان هذا النشاط صنيعه لوحده أم يدخل ضمن شبكات قوية النفوذ داخل النظام أو ضمن مصالح قوى أجنبية ومخابر معادية مشبوهة تناور وتشكك وتضرب أي محاولة للنهوض أو التقدم، لذلك لم يتم المس به أو التقرب منه أو منعه طوال تلك الفترة، بل أن ما يتم الكلام عنه همسا في الغرف الخلفية من قلاقل صامتة في أعلى هرم السلطة صدح به عاليا عبر قناته أو من خلال كتابته.

لم يسيطر الخوف عليه وهو يكتب، فالضمانات الأفقية والعمودية والسرية والعينية كانت أقوى، والتغطية التي حظي بها من مسانديه سواء هنا أو في الخارج كانت فاصلة في إستمراريته، وهو يدرك أن لهؤلاء باع طويل في نسج خيوط الإشتباك، وحتى يعرفون مكونات الخلطات السحرية التي تمنع العين والحسد، بل هناك من الوسائل والطرق الحاضرة دوما للتعبئة والتشييج، وهي من ستزيد في تضخيم الموقف.

أختلفت نقاط قوته عما كانت عليه من قبل، ففضاءات القول ومساحات الكتابة في أي شيء أصبحت مفتوحة أكثر دون حدود أو رقيب (أتكلم هنا في فترة الحراك وما تلاها)، فلا يحذف أي شيء أو لا يتناول أي موضوع دون أن يحمله الكثير من الجرأة والإفصاح عن المسكوت عنه.

وحين كتب واحدا من أخطر مقالاته المعنونة بـ:"لو كان ميهوبي رئيسا هل كان سيكون أفضل من تبون؟"، لم يلمح فقط أو يوجه أو ينتقد ولم يتوارى خلف النقاط بل ضمنه رؤية غالبة لجهات ما زلت تنظر إلى ما وقع بعد الحراك من أحداث على أنها صاحبة اليد العليا فيها، وفي لحظة فارقة سحب البساط من تحت أرجلها لفائدة قوى أخرى وموازين أخرى، "تفركشت" حساباته، فأنتابها الغضب والحنق، كتمته على مضض ورمته إلى فم القاضي إحسان، وتلك فصول تراجيدية لمسرحية الصراع على الحكم بين طرف وطرف.

تمّ النظر إلى مقال القاضي إحسان على أنه من وحي الدولة العميقة التي ما فتئت تتحرك في كل جهة منذ أن زج بعرابيها في السجن، وعرت التحقيقات حقائق مذهلة عن ما كانت تفعله طوال سنوات من حكم بوتفليقة، غير أن تصلبها وتجذرها كان أقوى مما تم الإحاطة به، فأذرعها بقيت تشتغل بمكر ودهاء.. تترصد الفرص والزلات والهنات والأخطاء التي ترتكب بحسن نية أو عمدا من طرف رجال الدولة الذين وفدوا إلى مفاصل الحكم ووجدوا أنفسهم فجأة أمام وفرة هائلة من النفوذ مبسوط بين أيديهم، اندفعوا لتفكيك أساسات ما كان موجودا والذي بني على كم غير معقول من الفساد والمحاباة والجهوية والمصالح الضيقة وغيرها من الأمور التي اتضح أنها نخرت مقومات الدولة وأرجعتها إلى الوراء، لا تخدم التقدم ولا المستقبل.. صحيح أن القوم الجدد امتلكوا الطاقة والإمكانيات غير أن نضوب خيالهم وفقر تجربتهم والإستسهال في التعاطي مع التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم، ورهانهم على معالجات تقليدية مبسطة للكثير من المشاكل خلق الإرتباك وردود أفعال هزيلة وفارغة وسطحية.

ولأن لعبة القاضي إحسان وشبكاته والظلال التي تتحرك وراءه أو تحركه وتطوعه بين أصابعها، أوشكت على التمزق والإنفجار كان لزاما على النظام أو السلطة أو العسكر أو القضاء أو من كان بيديه الفك والربط، كان لزاما أن تقصقص الأجنحة وتشعل النيران تحت أقدامهم، تطلب العمل على الشبكة 4 سنوات أو أكثر حسب مصادر أمنية لفض قواعد اللعبة وإضعاف وخلخلة الهدوء والدفء الذي كانت تتنعم فيه، لم تعد اللعبة مرتبطة بفصيل ضد فصيل أخر، بل أبانت التحقيقات عن مشاريع أجندات كبيرة تندرج في سياق تحولات جيوسياسية كبرى تتفاعل في العالم، وعتبات مشتعلة على الحدود وأعمال إستخباراتية دقيقة لدول قوية لا يهمها في نهاية الأمر لا القاضي إحسان ولا غيره، ولا هراءات حرية الصحافة، بل همها الوحيد مصالحها ولتنجح في ذلك كان لا بد أن تبقى الصراعات مفتوحة بين العصب وكارتلات الحكم والمال والعصابات.

حتى الآن يواصل العالم وأتباع القاضي إحسان النظر إلى قضيته على أنها عثرات في طريق الحرية والتغير، يــٌحشد القاصي والداني للضغط على بلد مستقل في قراراتها وحر فيما يفعل، ومثله مثل الصحفي خالد درارني الذي لم يكتب مقالا كي يشفع له، لا يستبعد أن يتم تصنيفه شهيدا للكلمة الحرة أو كما يحلو للكثيرين وصل خيطه المعقد الملتبس بوالده المجاهد لتعطى له مشروعية مقدسة، وفات هؤلاء أن الفرق يكمن هنا في أن تكون مجاهدا يرفع سلاحه الناري في وجه عدو معلوم بالألف واللام، وبين أن تكون مجاهدا يرفع سلاح قلمه في وجه عدو مبني للمجهول.