الفن التشكيلي الشعبي ملهم للمبدعين

الفن التشكيلي الشعبي يساهم في حماية الرموز الشعبية من الاندثار ويساعد على عملية توثيق الهوية من خلال الأعمال الفنية التي تظهر حضارتنا بقيمها الانسانية وتراثها النابع من اعماق عادات وتقاليد شعوبنا.

عرف الانسان الأول الرسوم والنقوش قبل ان يعرف الكتابة واستخدمها في التعبير عن مكنونات نفسه ونقل افكاره الى الاخرين، كما استخدمها في فك رموز سحرية لحمايته من اخطار الحيوانات المتوحشة ولدرء اهوال المجهول . 
وفي بادئ الامر كانت تلك الرسوم تحفر باليد على جدران الكهوف والصخور وكل ما تطوله الايدي من ادوات يومية مثل اواني الطعام واواني الشرب . 
واحتوت تلك الرسوم على صور الحيوانات وفنون الصيد المتبعة في تلك العصور وبعض العادات الخاصة بسكان تلك المناطق .
 وجاء الفنان المصري القديم ليحقق طفرة حضارية فريدة في فنون النقش والتصوير من حيث الدقة والوضوح، وايضا من حيث البراعة في استخدام المواد والالوان لينقل طقوسه وشعائر مصورة على جدران المعابد والمقابر بالاضافة لمشاهد مختلفة شملت عاداته وتقاليده ليوثق معالم تلك الحضارة العريقة التي امتدت عبر العصور.
 ظل الانسان يعبرعن نفسه بتلك الرسوم والنقوش وتناقلتها حضارات مختلفة مثل العراقية واليونانية والرومانية والهندية والصينية.
وحين عرف الكتابة ظل متأثرا بفكرة الرسوم والنقوش واعتمد على الطريقة التصويرية ليرمز لحروف كتاباته كما في اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة واللغة الصينية ، وتعد الطريقة التصويرية للكتابة على جدران المعابد هي البدايات الاولى للفن التشكيلي . 
في بداية القرن السادس عشر اهتمت الكنائس في اوروبا بزخرفة المخطوطات الصادرة منها وبرع العديد من رواد الفن التشكيلي في هذا الأمر مما استتبع ظهور العديد من مدارس الفن التشكيلي داخل القارة الاوروبية .
وظلت حركة الفن التشكيلي في تطور حتى جاء عصر النهضة الحديثة فظهر فنانون نقلوا مفهوم الفن التشكيلي الى مرحلة جديدة اتسمت بأفكار ومفاهيم جمالية اختلفت كل الاختلاف عن المراحل التي سبقتها .   
على الصعيد العربي بدأ الفن التشكيلي خطواته الاولى في العصر الحديث ربما كان ذلك بسبب موقف الدين الاسلامي من الرسم والتصوير وظهرت الفنون التشكيلية بصورة جلية بعد الاستعمــار وكان في بداياته متأثرا بالنهج الاوروبي . 
لذا كان من الضروري ايجاد بصمة عربية صميمة تعبر عن وجدان الشعب العربي فأنشأ الامير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة وكان للرواد الاوائل من الفنانين امثال راغب عياد ومحمود سعيد مهمة اكتشاف هوية مصرية وعربية ووجدوا في التراث الشعبي الهوية المتأصلة والالهام الضارب في جذور التاريخ . 
وظهرت مدرسة الفن التشكيلي الشعبي التي تناولت اللوحة التشكيلية بأسلوب فني في مضمونها من خلال رؤية وثيقة بالهوية المحلية التي تستمد شخصيتها من تقاليد الخطوط الإسلامية وتقاليد الرسوم المصرية القديمة فاهملت المنظور والزوايا الجانبية في رسم الاشخاص والحيوانات ووزعت العناصر والموضوعات على مسطح اللوحة وهي تقاليد فنية انفرد بها الشرق نائيا بنفسه عن القواعد المتبعة في الرسوم الاوروبية . 
هذه الطريقة اتاحت لفناني المدرسة التشكيلية الشعبية الإكثار من العناصر المرسومة في المساحات الضيقة داخل اللوحة لتعبر بصورة فطرية وبلهجة دارجة عن مضمونها مما يجعلها مفهومة للعامة. 
ولجأ الفنان التشكيلي الشعبي للتعبير عن هويته العربية الى بعض الرموز المتنوعة واستخدمها في تشكيلات فنية تعبر عن ثقافته الانسانية مثل النخل والطيور والاسماك كما اضاف بعض الأشكال الهندسية كالمثلث والمربع والدائرة وبعض الأشكال المعمارية مثل المئذنة والقبة والهلال . 
يبدأ الفنان التشكيلي الشعبي عمليتي الرسم والتلوين بإستلهام الأفكار والأشكال التي يثري بها عمله معتمدا على إحساسه الفطري في التعبير، كما يستخدم التسطيح لإبراز المعنى دون التقييد بقواعد المنظور ولا يستخدم البعد الثالث في اعماله بل يعتمد على الخطوط الأفقية التي تحدد مستوى النظر فقط . 
وقد يتضمن العمل الفني وحدات متكررة تحقق للفنان التشكيلي الشعبي الانطلاق دون قيود مما يحدث التناغم والتوازن داخل اعماله، ولا يتقيد التشكيل الشعبي بقواعد التشريح للأشخاص كما إن العناصر التشكيلية في اللوحة قد تكون مغايرة لطبيعتها الحقيقية من حيث النسب والمقاييس مما يوحي بالتلقائية والبساطة بالإضافة الى وحدات الزخرفة الشعبية كالكف والعيـن والنخيل وبعض الحيوانات كالأسد والحصان والتي تأتي في مضمونها محملة بالحكايات والأساطير التي تنبثق من قيم المجتمع الثقافية .
من هنا يظهر لنا جليا ان الفن التشكيلي الشعبي ساهم في حماية الرموز الشعبية من الاندثار والزوال في عملية تأصيل وتوثيق للهوية من خلال الأعمال الفنية التي تظهر حضارتنا العريقة بقيمها الانسانية وتراثها الأصيل النابع من اعماق عادات وتقاليد شعبنا لذا اصبح التشكيل الشعبي بمثابة أداة فعالة في تدوين التراث وحمايته والحفاظ عليه مما يوجب تقديم الدعم اللازم لمؤسسات تعليم الفنون ورعاية الدراسات والابحاث داخل المعاهد المختصة بالفنون الشعبية المنتشرة في ارجاء وطننا العربي ليظل تراثنا الشعبي دائما مصدر الهام المبدعين على مر العصور برموزه وافكاره الشعبية الأصيلة .